أذكر يوم دخلت عليه سجن جنيد سنة ألف وتسعمائة وتسعين من القرن الماضي، كان قد أمضى من حكمه المؤبد اثنتي عشرة سنة، وكنتُ محكومًا بنفس المدة التي قضاها.. تساءلت في قرارة نفسي: كيف أمضى هذه المدة الطويلة خلف هذه الجدران البليدة القاسية؟ كيف احتمل صلف السجان الذي يكيل له ما لذ وطاب من صنوف الألم والمعاناة؟ كيف احتمل قلبه فراق الأحبة؟ أو قل فراق الحرية لتشمل فراق كل جميل في هذه الحياة؟
استقبلني بابتسامة جميلة أشرق لها قلبي ورفع بها معنوياتي إلى عنان السماء.. قرأ في عيني السؤال: كيف كان لك كل هذا الزمن الطويل صديقًا، حيث أرادوه أن يكون عدوًا لك؟ أخذ بيدي إلى ما يشبه النافذة ومن خلف قضبانها الثخينة أشار لي إلى بيت جميل على سفح الجبل المقابل: "اُنظر إلى ذلك البيت، لقد رأيتهم عندما أحضروا المساح ليمسح الأرض، ثم جاء قلاب البناء ليقلب الأيام مع نقلات الحصمة الناعمة والإسمنت، ورأيتهم يعقدون البيت، ثم رأيت زفة عروسين تدخل البيت، ثم رأيت طفلًا تحمله أمه، ثم رأيته وهو يركض خلفها وبين يديها طفل آخر.. الحياة تمضي سريعة يا صديقي ولن تتوقف بدخولك السجن.. دورك في الحياة أيضا لا يتوقف.. ابحث لك عن دور يفيد الناس حتى وأنت خلف هذه الجدران..
ومضت الاثنتا عشرة سنة، وكان نائل آخر من ودعني وداعه الحار، الذي ضخ فيّ شحنات عالية من روحه، ثم كان له أن يضيف إلى قنطرة صبره وعطائه عشر سنوات، ليفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار.. أربعة وثلاثون عاما!! هل ندرك حجم الألم الذي تجرعه نائل وهو متمترس في خندق المواجهة المباشرة مع عدو لئيم متفنن في قهر الرجال بما يملكه من أدوات البطش والظلم؟.. نائل بما وقر في صدره، وبعزيمة لا تلين، نجح في المحافظة على روحه العالية وإرادته الصلبة، وبقي ليس فقط متمسكا بصبره وصموده، وإنما حافظ على بقائه مصدرًا من مصادر الطاقة العالية لبقية الأسرى.. لم يلتزم فراشه "سريره" محافظا على ذاته من الضياع أمام موجات الشر المتلاحقة، وإنما كان جبلًا راسخًا وصخرة تتكسر عليها نصالهم.. وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، فكل من التقى بنائل استمد من روحه العالية طاقة ساعدته في السير قدمًا إلى الأمام، ولقد كنت بفضل الله واحدًا منهم.. كان من القلائل الذين أسهموا في شد أزري وشحني بالطاقة اللازمة لمتابعة الطريق ..
لم يترك الاحتلال بحقده اللا محدود لهذا الكهل الشاب أن يعيش حياته الطبيعية بعد أن تنفس نفسا من الحرية، فأعاده إلى خندق المواجهة المباشرة من جديد.. وهذا حسب نظرية نائل هو الوضع الطبيعي لشعب محتل.. الاعتقال وزج الأحرار في السجون هو دأب الاحتلال، ومن يطمع بحياة من يحمل بطاقة الـ VIB، فيستيقظ صباحا ليكحل عينيه بالجيب الفاره الذي يقف أمام بيته، ليتجول به في ربوع الوطن يغدو ويروح إلى حيث شم النسيم العليل والبساط الأحمر المفروش له على الجسور بأسفار جميلة لا يعكر صفوها شيء.. هذه الحياة لا تنسجم مع وجود الاحتلال، ولا مع روح نائل الرافضة لهذا الاحتلال ..
عاد نائل إلى السجن من جديد ليكمل عامه السابع والثلاثين فيه، وليحتفل بذكرى ميلاده الستين، وهو يعلن أنه لن ينضم إلى جوقة من رضي الاحتلال عنهم ورضوا عنه.. سيبقى النقيض لهذا الاحتلال الغاشم.. هو رابعة النهار في وجه هذا الغسق الحالك، فالنور والظلام لا ينسجمان أبدًا .. نائل لم يتعاطَ السياسة في سوقها السوداء مذ كنا في سجن هداريم، وحيث أقمنا منتدى "هداريم السياسي"، وكان نائل عضوًا فاعلًا فيه، كان على الدوام رافعًا لراية فلسطين ككل لا يتجزأ.. فلسطين من بحرها إلى نهرها.. وعندما كنا نناور ونفكر في التكتيك كان نائل يقول: ما خرّب بيت القضية إلا التكتيك، ويذهب بنا إلى حفلة عدن الشهيرة "خلينا انبطّل تكتيك".. وكنا عندما نجمل الموضوع ويبقى نائل متمسكًا برأيه الشامخ يصرّ على وضع تحفظاته دون أدنى مواربة.
ويصر نائل على أن يكون خروجه من السجن كما دخل دون أن ينال منه السجان، ويسجل عليه أي نقطة أو لحظة من لحظاته النقية.. يلتحم بالكتاب ويصادقه صداقة حميمة، ويصر على البرامج الثقافية، ويعد من يضعف فيها أو يتخلى عنها كمن يتخلى عن سلاحه، وكان يدعو بكل قوة إلى الحياة العسكرية التي تعد الأسير مجاهدًا وجنديًا في ثورة، ولا تروق له حياة فيها شيء من الرخاوة والميوعة، فيقف ضد من يتوسع كثيرًا في كنتينة أو تحميل الأهل فوق طاقتهم بإدخال مبالغ كبيرة أو ملابس تعفي السجان من تكاليف السجن بأي حال من الأحوال.
نائل شكل سدًا منيعًا أمام أي تداعٍ أو انهيار في جبهة صراع الإرادات، فهو إرادة حرة منيعة تستعصي على السجان، وتجعل من الأسرى نخلة سامقة لا تقدر عليها سهامهم وصواريخهم. وقد نقول ذلك عن شخصية تقف بضعة أيام و أشهر أو حتى سنين، أما ونحن أمام شخصية تستمر على هذا التدفق لسبع وثلاثين سنة، فإننا بالفعل أمام نهر لا ينقطع ماؤه ولا يجف عطاؤه.. هذا الرقم الصعب يشكل مدرسة خالدة بل كلية عسكرية لا نظير لها لا في ماضٍ ولا حاضر. أنى لنا أن نقدر هذا الرقم حق قدره.. هل لنا أن نستوعب ذلك، وحيث إني كاتب هذا المقال قد قضيت في السجون ثلث هذه المدة، ولا أكاد أستوعب هذا الأمر.
أخيرا، ونحن نشعر بأننا لا نعطي الرجل حقه مهما قلنا وكتبنا، فقد آن الأوان لأن يخرج من هذه السجون هو ومن معه من قلوبنا النابضة.. لا بد من جعله شخصية عالمية كرمز من رموز القضية الفلسطينية، وكعنوان مركزي لملف الأسرى في السجون الصهيونية.. لا بد من طرق كل الأبواب من أجل حريته، خاصة البوابة المصرية التي كانت راعية لصفقة وفاء الأحرار. ومع كل مناسبة يجب أن يتصدر نائل مشهد هذه المناسبة.. وفي هذا السياق لنذكر أن نائل لا يقل شأنًا عن نيلسون مانديلا، ولكن المختلف أن السياق هناك يختلف عن سياقنا الذي لا نعطي فيه لرجالنا أقدارهم، ولا ننزلهم منازلهم.. آن الأوان لنائل البرغوثي في ميلاده الستين أن ننزله المنزلة التي تليق به، وبسبع وثلاثين سنة من عمره في سجون هذا الاحتلال البغيض..