فلسطين أون لاين

​أبرزها القصة والحدث والموعظة

"الحبيب المصطفى" مدرسةٌ تفوقت أساليبها في تربية أصحابه

...
غزة - مريم الشوبكي

لم يكن النبي مجرد رسول يبلّغ ما يتنزل عليه بالوحي فحسب؛ بل إنه كان مبلغًا للوحي، ورئيسًا للناس وقاضيًا يفصل في خصوماتهم، وكان هاديًا ومربيًا ينشئ صحابته على مكارم الأخلاق، ويعلمهم كيف يرتقون بأنفسهم، وكيف يكونون من أصحاب الخلق الرفيع؛ ذلك أن تشريعات الإسلام إنما كانت من أجل تكون أمة راقية متحضرة، تستطيع أن تسهم في بناء حضارة البشرية وتطويرها على خير وجه.

في التقرير الآتي نتناول "النبي المُربي"، ونتطرق إلى الأساليب التربوية التي استخدمها في تربيته لأصحابه من أجل صناعة أمةٍ متحضرة، حيث كان يستثمر كل المواقف والأحداث من أجل الوصول إلى هذا الهدف، فتارة نجده يربي أصحابه بالقصة، وتارة أخرى بالموعظة والحدث.

التربية بالقصة

يقول أستاذ الفقه المقارن في كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية د.ماهر السوسي: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبع أسلوب التربية بالقصة؛ ومن ذلك قصة راهب بني إسرائيل التي وردت في السنة المطهرة، فقد روى ابن ماجة في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي: "إِنَّ عَبْدًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بَعْدَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا! قَالَ: فَانْتَضَى سَيْفَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَكْمَلَ بِهِ الْمِئَةَ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ التَّوْبَةُ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ اخْرُجْ مِنْ الْقَرْيَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي أَنْتَ بِهَا، إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، قَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا، فَاعْبُدْ رَبَّكَ فِيهَا، فَخَرَجَ يُرِيدُ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، فَعَرَضَ لَهُ أَجَلُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَوْلَى بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي سَاعَةً قَطُّ. قَالَ: فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: إِنَّهُ خَرَجَ تَائِبًا".

وأوضح د.السوسي لـ"فلسطين" أن هذه قصة أراد بها رسول الله أن يربي أصحابه على التفاؤل وعدم الإحباط واليأس من رحمة الله –تعالى– وكيف أن التوبة تفتح باب الحياة الخيّرة للإنسان على مصراعيه، حتى يكونوا أكثر إقبالًا على الحياة والعمل الصالح والتوبة من كل ذنب.

التربية بالموعظة

وذكر أن النبي الكريم كان يتبع أسلوب التربية بالموعظة الحسنة عبر حرصه الدائم على ترقيق قلوب صحابته حتى يخلصهم من أدران النفس وهواها، وكانت وسيلته في ذلك الموعظة الحسنة المؤثرة، ومن ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: قال رسول الله: "والذي نَفْسِي بيدِهِ، لا تدخُلُوا الجنَّةَ حتى تُؤمِنُوا, ولا تُؤمِنوا حتى تحابُّوا، أفلا أدلُكُم على أمرٍ إذا فعلتُمُوهُ تحاببتُم؟ أفشُوا السَّلام بينكُم".

وأشار أستاذ الفقه المقارن إلى أن هذه موعظة موضوعها نشر الألفة والمحبة بين الناس، وعظ بها النبي أصحابه، وبين لهم أنهم بالحب والإيمان يدخلون الجنة، وأن أول خطوة في طريق ذلك هو إفشاء السلام بينهم.

ولفت إلى أن هذا الحديث قد يكون أيضًا هو مثال على التربية المثوبة؛ حيث إن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن من حب أخاه المسلم، وألقى إليه السلام، فإن جزاءه الجنة.

والتربية بــ"الحدث" كانت أيضا من أساليب التربية لدى رسول الله -كما بين د.السوسي- بأن النبي كان يستغل الأحداث الجارية في تربية أصحابه ومثال ذلك ما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- قال: كانَ لرَجُلٍ على النبي جَمَلٌ سِنٌّ مِن الإِبلِ، فجاءَهُ يَتَقاضاهُ، فأغْلَظَ، فهَمَّ بهِ أصحابُه، فقال :"دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحَقِّ مقالًا"، فقال: "أعطوه سنًّا مثل سنِّه"؛ أي جملًا مثل جمله، فطلبوا سِنَّهُ، فلم يَجِدوا له إلا سِنًّا فوقها؛ أي لم يجدوا إلا جملًا أفضل من جمله، فقالوا: ما نَجِدُ إلا سِنًّا أفضل من سنه، فقال: "اشْتَروهُ فـأعطوهُ [إياه"، فقالَ: أين الأعرابي: أوْفَيْتَني، أوفى الله بك، قال النبي: "أعطوهُ، فإنَّ خيارَكُم أحْسَنُكُم قضاءً".

ولفت إلى أن هذه الرواية قصد بها النبي تعليم أصحابه الأناة والروية، وألا يستعجلوا الأمور، حيث منعهم من الاعتداء على الرجل الذي آذاه بكلامه، واعتدى على مقام النبوة بالفحش من القول، وكذلك علمهم أنه من حسن الخلق أن تعطي أحسن مما تأخذ، وأن هذا هو سمت خيار الناس.

امتحانه من العلم

ومن الأساليب التربوية أيضًا، كما بين د. السوسي امتحانه صلى الله عليه وسلم أصحابه بشيء من العلم ليقابله بالثناء عليه إذا أصاب: كحديث معاذ بن جبل, حين اعتزم صلى الله عليه وسلم إرساله إلى اليمن, وسؤاله له: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ وبعد حسن إجابة معاذ, ضرب صلى الله عليه وسلم بيده على صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله).

وأشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي الفروق الفردية بين المتعلمين، فقد كان شديد الحرص على ذلك بين السائلين, يخاطب كل واحد منهم على قدر فهمه وبما يلائم منزلته.

وأوضح د. السوسي أنه من المعلوم ما للثناء على المتعلمين من دافعية لهم على المتابعة والمنافسة الشريفة, وما له من أثر كبير في تدعيم ثقتهم بأنفسهم, وتحملهم للمسؤولية بعد ذلك.

وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد التعليم بالتشبيه؛ أي أنه في كثير من الأحيان استعان على توضيح المعاني التي يريد بيانها بضرب الأمثال, مما يشاهده الناس بأبصارهم, ويقع تحت حواسهم وفي متناول أيديهم, وفي هذه الطريقة تيسير للفهم على المتعلم.

ومن أبرز أمثلة ذلك في السنة النبوية, حديث (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترّجة ريحها طيب وطعمها طيب, ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها, ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إذا لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه, ومثل جليس السوء كصاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه).

الحوار والمساءلة

وأشار إلى أن الحوار والمساءلة كانا أسلوبًا يتخذه صلى الله عليه وسلم لتعليم أصحابه بالحوار والمساءلة؛ وذلك لإثارة انتباه السامعين, وتشويق نفوسهم إلى الجواب, وحضهم على إعمال الفكر للجواب, ليكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك –إن لم يستطيعوا الجواب– أقرب إلى الفهم وأوقع في النفس.

ومن أبرز الشواهد على ذلك حديث: (أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم ...), وحديث جبريل الطويل في أركان الإسلام والإيمان والإحسان, وحديث (أتدرون من المسلم؟ أتدرون من المفلس؟).

وختم د. السوسي حديثه بالقول: "هذه هي بعض الأساليب التي اتبعها الرسول الكريم في تربية أصحابه، وغيرها كثير، ولكن المقام لا يسمح بذكر غيرها، على أن سيرته كلها كتاب تربية لأمته، ومنهج حياة، فصلى اللهم عليه وسلم تسليمًا كثيرًا".