فلسطين أون لاين

​الرسول في معاملته للخصوم رحيمٌ مستضعفًا ومُمَكّنًا

...
غزة - أسماء صرصور

فرّق الرسول (صلى الله عليه وسلم) في معاملته لخصومه بين الحربيين والمسالمين، واستمر تسامحه (عليه الصلاة والسلام) في تعامله بعد التمكين له في الأرض، فلم تختلف معاملته وقت أن كان مستضعفًا عن معاملته بعد أن انتشر الإسلام، ومكّنه الله (عز وجل) في العهد المدني.

"فلسطين" تتحدث إلى عضو رابطة علماء فلسطين د. يونس الأسطل، لتستذكر معه بعضًا من أمثلة تعامل الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع خصومه المخالفين له في الدين، والتفاصيل في السياق التالي:

الأخذ بالظاهر وترك السرائر

ويبدأ د. الأسطل حديثه إلى فلسطين بالإشارة إلى قوله (تعالى) عن الرسول: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"، وقوله (تعالى): "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وقوله (تعالى): "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ".

ويبين أن السر في هذه الآيات أن الله كرّم بني آدم بوصفهم بشرًا، ولو لم يكونوا مؤمنين، ما داموا لم يعلنوا العداوة لدينه ولأوليائه في الأرض، مستدلًّا بقوله (تعالى): "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، مشيرًا إلى أن هذه الآية جاءت بعد قوله: "عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".

ويستطرد في ذكر الأمثلة التاريخية التي أظهرت تسامح الرسول (عليه الصلاة والسلام)، ومنها قصة عبد الله بن أبي بن سلول الذي تظاهر بالإسلام، ولكنه حاك كثيرًا من الدسائس بين المسلمين، وكان من أسوئها قذفه للسيدة عائشة (رضي الله عنها) بالفاحشة، فاستأذن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في قتله، فرفض النبي.

ويكمل: "وبعد وفاته عقب معركة تبوك أعطى (عليه الصلاة والسلام) بردته لابنه ليكفنه بها، ثم صلى عليه، قبل أن ينزل قوله (تعالى): {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}"، مبينًا أن هذا موقفه (صلى الله عليه وسلم) من سائر المنافقين، فقد قال له ربه: "فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا"، أي لا تعاقبهم.

وينبه الأسطل إلى أن الدرس المستفاد من تعامل الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع المنافقين أنه علينا أن نأخذ بالظاهر ونترك لله السرائر، فنحن لم نكلف بأن نشق صدور الناس لنرى أمنافقون هم أم مؤمنون، خاصة أن كثيرًا من الناس لا يعرف المنافقين ويظنهم مؤمنين، فإذا قُتلوا دون سبب ظاهر نَفَرَ الناس من الدين.

اذهبوا فأنتم الطلقاء

ويسرد موقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) من كفار قريش يوم فتح مكة، إذ جمع الملأ منهم عند الصفا، وقال: "ما تظنون أني فاعل بكم؟"، أي بعد أكثر من عشرين سنة من الاضطهاد والإخراج من مكة، ومقاتلته في بدر، وأحد والخندق، ومنعه من دخول مكة محرمًا يوم الحديبية، وغير ذلك من وجوه الإجرام، فكان جوابهم: "خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

ويشير إلى موقفه (عليه الصلاة والسلام) أنه كان قد أهدر دماء أربع عشرة نفسًا، وأمر أن يقتلوا، ولو تعلقوا بأستار الكعبة، لكنه بعد ذلك عفا عمن يأتي معتذرًا، سواء أسلم أم لم يسلم، وكان ممن جاء مسلمًا عكرمة بن أبي جهل، ونهى الصحابة (رضي الله عنهم) أن يؤذوه بسب أبيه، محافظة على نفسيته.

ويلفت إلى أنه ممن أقام بمكة آمنًا آنذاك ولم يسلم صفوان بن أمية الذي قُتل أبوه يوم بدر، وخطط لقتل رسول الله (صلى الله عليم وسلم) انتقامًا لأبيه أمية، إذ لقي يومًا عمير بن وهب، وكان ابنه أسيرًا في المدينة، فعرض عليه صفوان أن يذهب متظاهرًا بفك أسيره، وأن يغتنم الفرصة لقتل النبي، متعهدًا له أن يسد ديونه جميعًا، وأن يكفل زوجته وأولاده في نفقتهم.

ويتابع الأسطل: "قام عمير بهذه المهمة بعد ثلاثة أيام، كان قد غمس فيها نصل خنجره في السم، ولما وصل إلى المدينة قال (عليه السلام): "ما جاء بك يا عمير؟"، فأجاب: "جئت لأفتك ولدي من الأسر"، قال الرسول: "اصدقني القول"، قال عمير: "ليس إلا ذلك"، فأخبره بما كان بينه وبين صفوان بن أمية، فإذا عُمير ينطق الشهادتين، لأنه لم يعلم بخبرهما أحد، ولهذا إن النبي (عليه الصلاة والسلام) قد أعطى صفوان بعد معركة حنين غنمًا بين جبلين تأليفًا لقلبه، الأمر الذي جعله يدخل في الدين.

وفي هذا السياق يذكر ما بدر من سعد بن عبادة يوم فتح مكة حين قال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم أذل الله قريشًا"، فنزع النبي الراية منه، وقال: "اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا"، وألّف قلب أبي سفيان حين أعلن أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، بعد قوله: "من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن".

تأليف قلوب زعماء قريش

ويسوق الأسطل مثال ما حدث مع قائد معركة حنين مالك بن عوف إذ هرب بعد الهزيمة، فقال النبي: "أخبروا مالكًا إن أتاني مسلمًا رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل"، مبينًا أن النبي (عليه الصلاة والسلام) تألّف قلوب زعماء قريش بغنائم حُنين حين أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل، حتى وجد الأنصار في أنفسهم شيئًا، بل قال بعض الناس يومها: "إن هذ قسمة ما أريد بها وجه الله"، وخاطبه بعضهم قائلًا: "اعدل يا محمد؛ فإنك لم تعدل"، فقال (عليه الصلاة والسلام): "ويلك، فمن يعدل إن لم أعدل؟!، رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

وكان قد اقترض (عليه الصلاة والسلام) بعيرًا من أعرابي، فجاء يتقاضاه قبل حلول الأجل، وقال: "يا محمد، أدِّ إليّ ديني، فإنكم _يا بني عبد المطلب_ قوم مطل"، فهمّ به عمر، فنهاه عن ذلك، وقال: "أنا وهو _أي أنا والأعرابي_ كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب يا عمر فاقْضِه حقّه وزِدْه عشرين صاعًا مكان ما رُعْتَهُ".

ويشير إلى أنه حتى في العهد المكي الذي كان فيه مستضعفًا لم تكن أخلاقه تختلف عنها بعد التمكين، ذاكرًا لحظة رجوعه من الطائف بعد أن أساءوا القول معه وأطلقوا صبيانهم وعبيدهم يقذفونه بالحجارة، وأقام الليل يشكو إلى ربه ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، فبعث الله له ملك الجبال مع جبريل، وقال: "إن شئت أطبق عليهم الأخشبين (جبلين عظمين)"، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا".

ومثل هذا يذكر الأسطل ما دعا به لقريش بعد معركة أحد، فلمّا أصيب رسول الله، قالوا: "لو دعوت عليهم"، فقال: "إني لم أبعث لعانًا، ولكن بعثت داعيًا ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".