مع أول هطولٍ للمطر، يشدّ محمود عبدو قطعةً من النايلون المقوّى فوق فجوةٍ في سقف منزله، محاولًا صدّ المياه عن أطفاله.
لا يفعل عبدو ذلك إيمانًا بقدرة النايلون على الحماية، بل لأنه لم يعد يملك خيارًا آخر. ففي منزلٍ مدمرٍ وآيلٍ للسقوط بحي الشيخ رضوان شمال غربي مدينة غزة، قرر محمود السكن مع أسرته رغم الخطر الداهم، بعدما لفظتهم الخيمة التي لم تصمد أمام برد الشتاء ورياح المنخفضات الجوية.
ويبلغ عبدو من العمر سنواتٍ قضاها بين هذا البيت وجدرانه التي كانت يومًا ملاذًا آمنًا. وتبلغ مساحة منزله 300 متر مربع، أُقيم المبنى منها على مساحة 180 مترًا، لكنه تعرض لضررٍ كلي خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
جدران متصدعة
يقف المنزل اليوم شاهدًا على قسوة الحرب؛ جدران متصدعة، وسقوف مثقوبة، وأساسات واهنة تهدد بالانهيار في أي لحظة.
ويقول عبدو، وهو أب لثمانية أطفال ويعيل أسرة من عشرة أفراد، لمراسل صحيفة "فلسطين"، إن اضطراره للسكن في هذا المكان جاء بعد تجربة نزوح قاسية.
ويضيف بنبرة تختلط فيها المرارة بالخوف: "الخيمة لم تحمِ أطفالي من البرد ولا من المطر، وخلال الأشهر الماضية غرقت خيمتنا أكثر من مرة، وكدنا نفقد كل شيء".
ومع اشتداد المنخفضات الجوية، بات البقاء في الخيمة خطرًا لا يقل عن خطر العودة إلى المنزل المدمر.
ويقع منزل محمود في الطابق الثاني الذي دُمّر بالكامل، ما اضطره هو وشقيقه موسى إلى الإقامة في الطابق الأرضي، حيث ما زالت بعض الجدران قائمة، لكن القائم هنا، وفق عبدو، لا يعني الآمن.
ويشير بيده إلى شقوقٍ عميقة في الجدران، ويقول إن بعضها انهار بالفعل فوق أطفاله، ولولا لطف الله لكان المشهد أكثر فداحة، خاصة بعد انهيار المنزل المجاور من الجهة الشمالية، والذي يعود لعائلة لبد، حيث نجت عائلته بصعوبة من تحت الأنقاض.
ولا يغادر الخوف عبدو، خصوصًا مع كل منخفضٍ جوي، قائلًا: "في كل مرة تمطر السماء، أعيش ساعاتٍ من الرعب، أخشى أن ينهار البيت علينا ونحن نائمون".
ويستذكر مساء السبت 20 ديسمبر الجاري، حين ارتقى خمسة شهداء من عائلة لبد جراء انهيار منزلهم الذي كان قد تعرض لقصف إسرائيلي سابق، مؤكدًا أن تلك الحادثة لم تكن بعيدة عنه، لا في المكان ولا في الألم.
ويؤكد محمود أن معظم منازل حي الشيخ رضوان باتت آيلة للسقوط، بفعل الدمار الواسع الذي خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية، إلى جانب تأثيرات المنخفضات الجوية المتتالية.
وفي محاولةٍ يائسة للتكيّف، يضع قطع النايلون على الثقوب، ويرتب الأغطية حول أطفاله، لعلها تمنحهم دفئًا مؤقتًا أو تؤخر وصول المطر إلى صدورهم الصغيرة.
استهداف متعمد
إلى جانبه يقف شقيقه موسى عبدو (45 عامًا)، الذي يشاركه السكن في المنزل المدمر.
ويقول موسى لصحيفة "فلسطين": "يعيش اليوم 14 شخصًا بين هذه الجدران المتصدعة، نُعيل أسرًا كاملة هنا، ونعرف أن الخطر كبير، لكن إلى أين نذهب؟".
ويؤكد أن ما جرى خلال الحرب لم يكن تدميرًا عشوائيًا، بل استهدافًا متعمدًا للمنازل بهدف جعلها غير صالحة للسكن، في محاولة لدفع السكان إلى الرحيل، مضيفًا: "لكن الاحتلال واهم.. لن نترك أرضنا".
ويطالب الشقيقان، ومعهما كثيرون من سكان الحي، المجتمع الدولي والعالم الحر بالتحرك العاجل لإدخال الكرفانات والبيوت المتنقلة إلى قطاع غزة، وتوفير أماكن آمنة مؤقتة لأصحاب المنازل المدمرة، إلى حين بدء عملية الإعمار.
كما يناشدون رعاة اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 13 أكتوبر الماضي الوفاء بالتزاماتهم الإنسانية، وحماية المدنيين من الموت البطيء تحت الركام، مؤكدين: "الخيام لا تقي من برد الشتاء ولا من حرّ الصيف، نحن نموت كل يوم خوفًا".
خطر جسيم
من جهته، يحذر المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل من خطرٍ جسيم يهدد حياة المواطنين في حي الشيخ رضوان.
ويؤكد بصل لـ"فلسطين" أن نحو 90% من المباني القائمة في الحي آيلة للسقوط، بعد تعرضها لأضرار جسيمة خلال اجتياحين نفذهما جيش الاحتلال، استخدم فيهما روبوتات مفخخة لتفجير منازل المواطنين، ما أدى إلى تدمير واسع النطاق وإضعاف أساسات المباني المتبقية.
ويشير إلى أن الدفاع المدني سجل انهيار 17 منزلًا بشكلٍ كامل، أسفر عن ارتقاء 18 مواطنًا، إضافة إلى نحو 100 منزل انهارت أجزاء كبيرة منها.
ويحذر من انهيارات مفاجئة، خاصة مع استمرار تأثير المنخفضات الجوية، حيث تتعرض المنطقة حاليًا للمنخفض الماطر الثالث منذ بدء موسم الشتاء، وسط توقعات باستمرار الأمطار الغزيرة حتى يوم الاثنين.
ويذكر أن منخفض "بيرون"، الذي ضرب قطاع غزة قبل نحو أسبوعين، أسفر عن ارتقاء 19 مواطنًا وإصابة آخرين، إضافة إلى غرق مراكز إيواء بأكملها.
وبين هذه الأرقام والقصص، تبقى حكاية محمود عبدو وأسرته واحدة من آلاف الحكايات التي تختصر معاناة الغزيين تحت ركام بيوت لم تعد تحميهم، لكنها ما زالت تحتضنهم.