لم تكن أنواع العذاب التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال مقتصرة على التجويع والعزل والضرب والحرمان من الزيارة، وصولا إلى الاعتداءات الجنسية، بل امتد التعذيب إلى خارج أسوار القضبان ليطال عائلاتهم عبر وقف صرف مخصصاتهم من السلطة، وتحويل الملف بالكامل إلى مؤسسة "التمكين الاقتصادي".
يبرر مسؤولو السلطة قرارهم بذريعة تعرضهم لضغوط دولية تجبرهم على وقف دفع المخصصات للأسرى، حتى لو أدى ذلك لحرمان عائلات 10 آلاف أسير من المخصصات، وإدارة الظهر لتضحيات الأسرى وصمودهم.
وجاء في قرار صدر عن رئيس السلطة محمود عباس أن "المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي الجهة الوحيدة المخولة بدفع المخصصات المالية، وتطبيق معايير الاستحقاق، ولن تصرف أي مخصصات مالية لأي فئة من الفئات المشمولة بالنظام الجديد إلا بعد تعبئة الاستمارة الموحدة المعتمدة من قبل المؤسسة، واستيفاء شروط ومعايير الاستحقاق المنصوص عليها في القانون".
ووفق بنود نشرتها مؤسسة تمكين في 18 ديسمبر/ كانون أول 2025، فإنه سيلغى العمل بعدد سنوات الأسر كما كان معمول به سابقا، وكما ستخضع عائلات الأسرى والشهداء للبحث الميداني، ما يعني شطب عائلات جديدة التي وصفتها المؤسسة في بيانها بـ "الإصلاحات".
وأكدت المؤسسة أنها لن تصرف أي دفعات مالية لعائلات الأسرى أو الشهداء أو الجرحى استنادا إلى أي تشريعات سابقة، وأن المخصصات ستصرف وفق نظام البحث الاجتماعي الموحد، المبني على معايير دولية معتمدة، والاستناد إلى معيار الاحتياج الاجتماعي فقط، دون أي اعتبار لصفة أو خلفية سياسية أو أمنية.
سحب شرعية الكفاح
بعد 30 عاما أمضاها المحرر عمار الزبن (51 سنة) في سجون الاحتلال والمحكوم بالسجن 26 مؤبدًا، نال حريته إثر صفقة تاريخية توصلت إليها المقاومة تقضي بوقف إطلاق النار بغزة مقابل الإفراج عن المئات من أسرى المؤبدات، ليتفاجأ بعد كل تلك السنوات خلف القضبان، بوقف السلطة صرف مخصصه، وهو ما لم يتوقعه.
ولطالما كان يعد الزبن رمزا وطنيا وأحد قدامى الأسرى في سجون الاحتلال، وهو من أوائل من سن أبناء "النطف المحررة" ولديه أربعة أبناء وهو من مدينة نابلس بالضفة الغربية، إلا أن سنوات أسره التي سرقت زهرات عمره، لم ترحمه من مقصلة "جز رواتب الأسرى".
منذ عدة سنوات توقف السلطة صرف مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء بحسب الانتماء السياسي خاصة الذين ينتمون لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، لكن الجديد في قرارها الأخير أن حتى أسرى فتح انضموا لقائمة من يطالهم وقف المخصصات.
ويعد الزبن القرار ارتهانا لإرادة الاستعمار وأبشع ما فيه، التوقيت المتزامن مع الإبادة بحق الشعب الفلسطيني وأسراه داخل السجون، وشطب تاريخ النضال والكفاح الوطني وإعلان البراءة من كل ما يتصل به لأن الشهيد والأسير والجريح تعبير عن جهاد الشعب.
ويقول الزبن لـ "فلسطين أون لاين": إن "إلغاء سنوات الأسر يتصل بالضرورة بسحب شرعية الكفاح من الأجيال عبر قانون يفقر المقاومين وعائلاتهم. الأسرى بغالبيتهم كبار في السن فالمتزوج يعتمد على سنوات الاعتقال لإعالة أولاده في المدارس والجامعات وتزويج الأبناء وغيرها من أعباء الحياة".
وأضاف "أما الأسير الأعزب فتلاحقه مسؤولية بناء أسرة وزواج وحياة كاملة ولا يستطيع العمل لأن معظم الأسرى والأسرى المحررون الذين طالهم القانون فوق الخمسين سنة".
وحول إلغاء التشريعات السابقة، فيعدها تجاوزا للقوانين والتشريعات الصادرة عن الشعب عبر ممثلية في المجلس التشريعي وهي رسالة واضحة تنسف إرادة الشعب وتنسف مخرجات الديمقراطية، كما أنها تتنكر لقرارات الرئيس الراحل ياسر عرفات، وحتى قرارات عباس الذي تخلى عن كل وعوده ومراسيمه الرئاسية.
واعتبر وقف صرف المخصصات "إهانة رسمية لأعظم شريحة بشعبنا، ستدفعهم مرغمين للبحث عن مصادر رزق لا تتوائم مع أعمارهم وظروفهم، وقد يلجأ بعض الأهالي العاجزين عن العمل وأغلبهم كذلك إلى طلب العون، وهذه هي الرسالة الأبرز للأجيال حتى تقتل روح الثورة في نفوسهم ويعيشوا في ذل وخنوع كيلا تصبح عائلاتهم كعائلات الأسرى، لكنهم لن يستطيعوا ضرب الكرامة".
حرمان المتنفس الوحيد
أما الأسير بلال البرغوثي فقطعت السلطة مخصصه في مارس/ آذار 2025، ونتيجة القرار اضطرت زوجته بيان لتخفيض عدد زيارات المحامين لزوجها من مرتين بالشهر إلى مرة واحدة.
وهذه الزيارة تمثل للأسير البرغوثي المتنفس الوحيد الذي يخرج فيه من غرفة السجن أو العزل، ويستطيع من خلال المحامي معرفة أخبار عائلته وما يجري من مستجدات سياسية يغيّب عنها الأسرى.
بقهر يعتلي نبرات صوتها تقول البرغوثي لصحيفة "فلسطين": "بالعادة يحصل المحامون على 700 شيقل من عائلة الأسير على كل زيارة ويقومون بجولة على ثلاثة أسرى في كل مرة للجلوس مع كل واحد على حدى، لكن إدارة سجون الاحتلال تضيق الأمر على بلال وبالكاد يجلس مع المحامي دقيقة، لذلك ندفع تكاليف زيارة خاصة بمبلغ 1500 شيقل".
وأضافت: "قبل قطع الراتب كنت أطلب زيارتين خاصتين من المحامين، وكان بلال يستطيع مغادرة غرفة الأسرى للتنفس نوعا ما، وكان يسأل دائما عن غزة وما يجري فيها، وهل دخلت كرفانات أو لا، وأو فتحت المعابر وانتهت المجاعة، أما الآن فلا أستطيع تلبية مطالب بلال الذي يصر على زيارة المحامي لكونها المتنفس الوحيد له".
والأسير البرغوثي محكوم بالسجن 17 مؤبدا وأمضى حتى الآن في سجون الاحتلال 25 سنة، وترى زوجته بيان أن انقطاع الراتب للأسير لا يمثل مسألة مالية فقط، بل عقوبة مركبة تمس الكرامة والوجود والقدرة على الصمود.
وعدت وقف صرف الرواتب محاولة لكسر الإرادة والضغط النفسي لإشعار الأسير بأنه متروك، وأن تضحياته لم تعد معترفا بها، وكأن حريته المسلوبة لا تكفي، فيضاف إليها قلق العجز عن إعالة من يحب.
والأمر الثاني، وفق البرغوثي، استهداف العائلة، فانقطاع الراتب لا يعاقب الأسير وحده، بل يطال زوجته وأطفاله ووالديه، فيحول البيت إلى ساحة معاناة، ويزرع الذنب في قلب الأسير وهو خلف القضبان.
ولفتت إلى أن الأمر الثالث هو تشويه المعنى النضالي، ومحاولة لإفراغ الأسر من قيمته الوطنية، وتحويل الأسير من صاحب قضية إلى عبء اقتصادي، في مسعى خبيت لتغيير صورة النضال بالوعي الجمعي.
فالراتب، كما تؤكد البرغوثي، بالنسبة للأسير ليس أجرا بل أحد أسباب الثبات، انقطاعه رسالة تقول: سنحاصرك حتى وأنت ثابت، حتى وأنت صابر، والحقيقة أن انقطاع الراتب لا يقطع المعنى ولا يلغي التضحية، لأن الأسير لم يدخل السجن من أجل المال، بل من أجل كرامة شعب وحق لا يسقط بالتجويع ولا بالعقوبات.
لحظة صدور مرسوم رئيس السلطة محمود عباس بوقف المخصصات قبل شهر، لم تتوقع زوجة الأسير يوسف بدران كما غيرها من عائلات الأسرى تطبيقه، لتكون الصدمة كبيرة لحظة ذهابها لسحب الراتب ووجدته مقطوعا، فتوجهت لهيئة شؤون الأسرى فلم تجد إجابة هناك.
تقول بدران لـ "فلسطين أون لاين": "الراتب مصدر الدخل الوحيد لي ولبيتي بعد اعتقال زوجي، وكل أمورنا الحياتية متوقفة على الراتب، ومع قطعه بتنا نعيش على الصدقات وما يقدمه الأهل والأصدقاء، الراتب ندفعه لزيارة الأسير، ودفع تكاليف المياه والكهرباء والطعام، ومصروف الأولاد. هذا حق سلب منا وحقنا أن نعيش بكرامة".

