على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، لم يتبدّد شبح الجوع عن حياة آلاف العائلات المجوعة في قطاع غزة، التي ما تزال تصارع لتأمين وجبة واحدة في اليوم.
ففي الأزقة الضيقة حيث يتجلى واقع الدمار، ومخيمات الإيواء المؤقتة، وعلى أطراف الشوارع المغطاة برماد الحرب، وتنتشر فيها خيام النزوح، يقف الناس في طوابير طويلة أمام تكيات خيرية تقدّم الطعام مجانًا، في مشهد يناقض تمامًا إعلان الأمم المتحدة عن انتهاء المجاعة بغزة.
مع ساعات الظهيرة، تبدأ حركة غير اعتيادية قرب إحدى التكيات في مدينة غزة؛ رجال ونساء وأطفال يحملون أوعية بلاستيكية وقدورًا معدنية، ينتظرون دورهم وسط زحام المجوعين. لا أحاديث جانبية، ولا ضحكات، فقط نظرات ترقب وقلق من نفاد الطعام قبل الوصول إلى نافذة التوزيع.

يقول محمود عفانة، (39 عامًا) وهو نازح في منطقة الكرامة، شمالي قطاع غزة: "توقف القصف، لكن الجوع لم يتوقف.. منذ أشهر لم نذق اللحم، وأحيانًا لا نجد الخبز."
يعتمد عفانة، وفق قوله لصحيفة "فلسطين"، على هذه التكيات كونها المصدر الوحيد للغذاء منذ أن دمرت الحرب مصدر رزقه الوحيد، حيث كان يعمل شيفًا في مطعم يقدم أشهى الوجبات والمأكولات.
وأضاف "تعطلت أعمالنا التي كانت تؤمّن دخلاً يوميًا لأسرنا، ولم أعد قادر على تأمين وجبة واحدة لأسرتي منذ إصابتي."

أما عن إعلان الأمم المتحدة انتهاء المجاعة بغزة، قال عفانة وهو رب أسرة مكونة من 5 أفراد: إن "هذا الإعلان منافٍ للواقع، فنحن لا يوجد لدينا طعام، ومنذ أشهر طويلة نعتمد على المساعدات لكنها صارت شحيحة جدًا."
ويتزامن الإعلان الأممي مع استمرار تلكؤ الاحتلال في إدخال المساعدات الإغاثية المقدمة من دول عربية وأجنبية، ويسمح فقط بإدخال السلع والبضائع التجارية بعد حرب دامية استمرت 734 يومًا، تسببت تدمير قطاع الاقتصاد، وتعطيل حياة الناس، وفقدان مصادر دخلهم.
وإبَّان الحرب التي بدأها جيش الاحتلال يوم 7 أكتوبر 2023، كان عفانة قد فقد منزله في منطقة تل الزعتر التي يحظر على سكانها العودة إليها، وأصيب أيضًا في قصف إسرائيلي تسبب ببتر ساقه اليسرى.
ويطال الجوع النازحين في مخيمات الإيواء القابعين تحت أسقف خيام وشوادر مهترئة لا تقيهم لسعات البرد، ويواجهون نقصًا حادًا ليس في الغذاء فحسب، بل في مياه الشرب أيضًا.

تحت سقف شادر ممزق محاط بأغطية رطبة، جلس إسحاق جاسر، لتناول وجبة صغيرة من الرز بعدما حصل عليها من إحدى التكيات التي تأتي يوميًا لمخيم يضم مئات الخيام في وسط مدينة غزة.
يقول جاسر: "لولا هذه الوجبة يوميًا لبتنا جائعين، فنحن ليس لدينا المال لشراء الطعام، والمساعدات قليلة ومتقطعة ولم نستلم منذ أشهر."
يتساءل جاسر في ظل الواقع المرير الذي يعيشه النازحون بعدما دمرت الحرب منازلهم وأفقدتهم مصادر دخلهم: "كيف يمكن أن تكون المجاعة انتهت ونحن نعيش هكذا؟"
وأضاف: "صحيح أن الإبادة الإسرائيلية توقفت، لكن الجوع لم يتنهِ.. ما زلنا نفتقد الكثير، ولم نأكل اللحوم والفواكه منذ بداية الحرب."
ورافق الإبادة الإسرائيلية حصار مشدد على قطاع غزة، منع بواسطته الاحتلال إدخال المواد الإغاثية، ما سبب مجاعة كارثية. ولاحقًا سمح الاحتلال بإدخال المساعدات إبَّان الحرب بشكل غير منتظم، وارتكب مجازر بحق اللاهثين وراء الحصول على كيس من الطحين أو حزمة مساعدات تحتوي على مواد غذائية في أكثر من منطقة في القطاع الساحلي.
وتثير المفارقة بين الإعلان الأممي والواقع اليومي بغزة تساؤلات واسعة؛ فبينما أعلنت الأمم المتحدة انتهاء المجاعة، تؤكد منظمات محلية وعائلات متضررة أن انعدام الأمن الغذائي ما يزال قائمًا، وأن الجوع لم ينته.
ويشير عاملون في المجال الإنساني إلى أن وقف إطلاق النار، وإن خفف من وطأة القصف والإبادة، لم يرافقه فتح كافٍ للمعابر أو تدفق منتظم للمساعدات، ما أبقى الأزمة الغذائية على حالها.

بدوره، أكد مدير وحدة المعلومات في وزارة الصحة زاهر الوحيدي، أن الخروج من تداعيات المجاعة المميتة في غزة "لن يتحقق في يوم وليلة، وإنما يحتاج إلى ستة شهور على الأقل كمرحلة أولى للتعافي.
وبين الوحيدي لـ"فلسطين"، أن المجاعة بغزة انعكست سلبًا على حالة المواطنين، وخاصة صحة الأم والطفل.
وأوضح أن وزارة الصحة لم تسجل انخفاضًا ملموسًا في حالات سوء التغذية الحاد في صفوف المواليد، حيث ما زالت الكثير من الحالات تصل إلى المستشفيات للعلاج.
وبلغ عدد الوفيات الناتج عن المجاعة بغزة 475 حالة، بينهم أطفال ونساء ومسنين، وفق الوحيدي.

