في قطاع غزة، لا تتوقف معاناة النساء عند حدود القصف والحصار، بل تمتد لتأخذ أشكالًا أكثر قسوة وخفاءً؛ فإلى جانب جرائم الاحتلال التي تستهدف الجسد والروح، برزت خلال الحرب ممارسات إجرامية أخرى لا تقل بشاعة، تتمثل في استباحة كرامة النساء ومساومتهن على احتياجاتهن الأساسية، في ظل انهيار منظومة الحماية وغياب المساءلة.
إن ما تتعرض له المرأة الغزّية اليوم هو جريمة مزدوجة: عدوان خارجي لا يرحم، وانتهاك داخلي يطعن القيم في صميمها.
جرائم الاحتلال: استهداف ممنهج للنساء
لم تكن النساء في غزة ضحايا عرضيات للحرب، بل هدفًا مباشرًا لانتهاكات ممنهجة.
فقد أدى القصف المتواصل للمنازل والأحياء السكنية إلى مقتل آلاف النساء، وإصابة أخريات بإعاقات دائمة، فضلًا عن فقدان الأمهات لأطفالهن أو أزواجهن، ما ضاعف الأعباء النفسية والاجتماعية عليهن.
كما استخدم الاحتلال التهجير القسري كأداة حرب، مجبرًا النساء على النزوح المتكرر في ظروف قاسية، دون توفير أي حماية، ليجدن أنفسهن في مراكز إيواء مكتظة، تفتقر للخصوصية والأمان، وتغيب فيها المرافق الصحية الملائمة، في انتهاك صارخ للكرامة الإنسانية.
الاغتصاب والانتهاك الجنسي: جريمة موثّقة لا يجوز إنكارها
من أخطر ما شهدته هذه الحرب، توثيق حالات اعتداء واغتصاب جنسي بحق نساء فلسطينيات على أيدي جنود الاحتلال الإسرائيلي، سواء أثناء الاحتجاز أو التفتيش أو في سياق الاقتحامات.
وقد تم توثيق بعض هذه الانتهاكات لتُضاف إلى سجل طويل من استخدام الجسد الفلسطيني، وخاصة جسد المرأة، كساحة إذلال وكسر نفسي.
إن إنكار هذه الجرائم أو التقليل من شأنها ليس حيادًا، بل تواطؤ أخلاقي، وصمتٌ يخدم الجاني.
استهداف الصحة الإنجابية والجسدية
لم يسلم حق النساء في الصحة، لا سيما الصحة الإنجابية.
حُرمت النساء الحوامل من الوصول الآمن إلى المستشفيات، وقُصفت المرافق الصحية أو تعطلت، ما أدى إلى ولادات قسرية في ظروف غير إنسانية، ونقص حاد في الأدوية ومستلزمات الولادة، أودى بحياة أمهات وأجنّة وحديثي الولادة.
هذا الاستهداف لا يدمّر الأجساد فقط، بل يضرب مستقبل المجتمع بأكمله.
الإذلال والاحتجاز والمعاملة القاسية
وثّقت مؤسسات حقوقية تعرض نساء للاعتقال التعسفي، والتفتيش المهين، والاحتجاز في ظروف قاسية شملت الإذلال والتهديد النفسي.
هذه الممارسات تشكل انتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة، وتترك آثارًا نفسية عميقة قد ترافق الضحايا لسنوات طويلة.
الحصار كسلاح مضاعف ضد النساء
لم يقتصر العدوان على القصف، بل استُخدم الحصار كسلاح عقاب جماعي طال النساء بشكل خاص، بحرمانهن من الغذاء والمياه النظيفة، ومستلزمات النظافة الصحية، وحليب الأطفال.
ومع غياب هذه الأساسيات، تتحول الحياة اليومية للمرأة إلى معركة بقاء، تُستنزف فيها صحتها وكرامتها.
حين يتحول الاحتياج إلى أداة ابتزاز
في هذا الواقع المنهك، تصبح النساء أكثر عرضة للاستغلال.
فقد وجدت بعضهن أنفسهن ضحايا مساومات غير أخلاقية على الغذاء أو الدواء أو المساعدة الإنسانية، من قبل أفراد يفترض أنهم جزء من منظومة الخدمة أو المسؤولية المجتمعية.
مساومات تُمارس أحيانًا بالتلميح، وأحيانًا بالضغط المباشر، مستغلة الجوع، والخوف، وحاجز الصمت، وهاجس “الفضيحة”.
قصص لا تُروى.. وصمت مفروض
تحكي (س)، وهي أم لثلاثة أطفال في مركز إيواء، كيف طُلب منها “التعاون” للحصول على حصة غذائية إضافية، وتقول:
"القصف أهون من هذا الذل.. لكن أطفالي كانوا جائعين".
أما (م)، وهي أرملة، فتؤكد أن المساومة لم تكن صريحة، بل جاءت في شكل تلميحات وضغوط نفسية متواصلة، جعلتها تشعر أن كرامتها باتت سلعة.
المساومة على النساء سقوط أخلاقي وربما أمني
كل من يساوم امرأة على كرامتها، تحت أي ذريعة، هو شريك في الجريمة.
وكل من يبرر ذلك بالفقر أو الفوضى أو “الضرورة” إنما يبرر الانحدار الأخلاقي، ويعيد إنتاج منطق الاحتلال نفسه: استغلال الضعف وسحق الإنسان.
المرأة التي تُجبر على الاختيار بين الجوع والكرامة ليست مخطئة، بل ضحية.
أما من يضعها أمام هذا الخيار، فهو الجاني، مهما كان موقعه أو لحيته أو شعاره.
المساءلة الغائبة.. والعدالة المؤجلة
في ظل الحرب، تغيب آليات الشكاوى الآمنة، وتضعف الرقابة، ويترسخ الإفلات من العقاب.
وهو ما يجعل حماية النساء مسؤولية جماعية عاجلة، لا خطابًا موسميًا.
خاتمة: كرامة النساء خط أحمر.. وخطوات عملية مطلوبة
إن نساء غزة لا يحتجن إلى شفقة، بل إلى حماية وعدالة وكرامة
ولذلك، فإن مواجهة هذه الجريمة المزدوجة تتطلب خطوات عملية واضحة، من أبرزها:
1. إنشاء قنوات آمنة وسرية للتبليغ تشرف عليها جهات موثوقة ومستقلة.
2. محاسبة فورية وصارمة لأي شخص يثبت تورطه في استغلال أو ابتزاز النساء، دون حصانة أو تبرير.
3. إدماج حماية المرأة كأولوية ملزمة في كل تدخل إنساني وإغاثي.
4. تدريب مقدمي الخدمات على أخلاقيات العمل الإنساني وآليات الحماية من الاستغلال.
5. كسر الصمت المجتمعي، وتجريم ثقافة لوم الضحية أو تبرير الجريمة.
6. توثيق الانتهاكات، بما فيها الجرائم الجنسية، قانونيًا وحقوقيًا، وعدم الخضوع لابتزاز الصمت.
في زمن تُقصف فيه البيوت وتُنتهك فيه الأجساد، يجب ألا تُقصف القيم، وكرامة النساء في غزة ليست قابلة للمساومة، ولا للتأجيل، ولا للنقاش.

