حذّر مراقبون اقتصاديون من تداعيات الارتفاع المتواصل في فاتورة الدين العام على المواطن الفلسطيني، مؤكدين أن انعكاساته قد تمتد لتشمل ارتفاع الأسعار وتقليص الخدمات الأساسية.
وشدّدوا على أن اعتماد السلطة الفلسطينية على حلول ترقيعية ومؤقتة في إدارة الأزمة المالية لن يُسهم في معالجة جذور المشكلة، بل قد يزيد من أعبائها على الأفراد والاقتصاد على حدّ سواء.
وبيّنوا أن سياسات السلطة الداخلية في الإدارة المالية والاقتصادية زادت من حدّة التأثير، وجعلت النظام المالي أكثر هشاشة وأقل قدرة على الصمود أو التكيّف مع الضغوط الخارجية.
ويقترب الدين العام من عتبة 15 مليار دولار، بحسب تصريحات حديثة لوزارة المالية.
وتفصيل الدين كما يلي: دين لصندوق التقاعد بقيمة 4.5 مليار دولار، وديون للبنوك المحلية بقيمة 3.4 مليار دولار، ومستحقات للموظفين بقيمة 2.5 مليار دولار، إضافة إلى ديون للقطاع الخاص بقيمة 1.65 مليار دولار، إلى جانب الدين الخارجي البالغ 1.4 مليار دولار، ومتفرقات أخرى بقيمة 1.2 مليار دولار.
وقال المحلل الاقتصادي سمير الدقران إن السلطة الفلسطينية تتحمّل جزءًا كبيرًا من مسؤولية تفاقم الأزمة المالية بسبب سياسات وإدارات داخلية، من أبرزها التخطيط السيّئ، الذي تجلّى في تراكم ديون هائلة ومتنوعة، والاعتماد على سياسات ترقيعية ومؤقتة كحلول، مثل صرف الرواتب المنقوصة بشكل متكرر، ما لا يعالج الجذور الحقيقية للأزمة، بل يؤجّل انفجارها، إلى جانب العجز المستمر في الموازنة وتراكم الفاتورة المالية.
وأضاف الدقران لصحيفة "فلسطين" أن هناك إهدارًا للموارد، يتمثّل في احتمالات وجود تسريب أو سوء تخصيص للموارد المالية المتاحة، ما يقلّل من فاعلية الإنفاق العام ويزيد من الهدر، وبالتالي يفاقم العجز والديون.
ونوّه إلى الاعتماد المفرط على الخارج، حيث يشكّل الاعتماد شبه الكلّي على إيرادات المقاصة (نحو 68% من الإيرادات) نقطة ضعف كبيرة، إذ يتحكّم الاحتلال بها ويُجمّدها بشكل تعسفي، ما يجعل المالية العامة رهينة لقرارات طرف خارجي، إلى جانب تراجع الدعم الخارجي دون بناء بدائل ذاتية.
كما تطرّق إلى غياب الإنتاج الوطني، موضحًا أن الاقتصاد غير المنتج يعني قاعدة ضريبية ضعيفة، واعتمادًا كبيرًا على الاستيراد، وعدم قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل وثروة بشكل مستقل.
وتصرف السلطة الفلسطينية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 رواتب منقوصة لموظفيها، بسبب تعمّق الأزمة المالية وتراجع الدعم الخارجي.
ويبلغ عدد المستفيدين من الرواتب وأشباه الرواتب 291,884 شخصًا، يشملون العاملين في القطاعين المدني والعسكري، وموظفي العقود والمياومة، وتفريغات عام 2005 في غزة، إضافة إلى الحالات الاجتماعية.
و"المقاصة" هي ضرائب تُفرض على السلع المستوردة إلى الجانب الفلسطيني، سواء من الاحتلال أو عبر المعابر الحدودية التي يسيطر عليها، وتجمعها سلطات الاحتلال لصالح السلطة الفلسطينية.
من جهته، يرى المختص الاقتصادي نائل موسى أن الأزمة المالية تحوّلت إلى أزمة بنيوية مركّبة، تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والإدارية. ويؤكد أن الارتفاع الحاد في الدين العام يشكّل مؤشرًا خطيرًا على اختلال هيكلي في المالية العامة، لافتًا إلى أن الجزء الأكبر من هذا الدين هو دين داخلي، ما يعني أن كلفته الحقيقية يتحمّلها المواطن الفلسطيني بشكل مباشر.
ويشير موسى إلى أن الاستمرار في صرف الرواتب منقوصة ليس حلًا اقتصاديًا، بل إجراء إسعافي قصير الأجل يُفاقم المشكلة، إذ يؤدي إلى تراجع القوة الشرائية، وانكماش السوق المحلي، وزيادة الركود.
كما ينتقد الاعتماد شبه الكامل على أموال المقاصة، معتبرًا إياه نقطة ضعف استراتيجية في ظل غياب سياسات جدية لتقليل هذا الاعتماد.
ويوضح موسى أن الاقتصاد الفلسطيني لا يزال اقتصادًا استهلاكيًا ريعيًا يعتمد على الاستيراد والمساعدات، دون تطوير قطاعات حقيقية قادرة على خلق قيمة مضافة، ما يضعف القاعدة الضريبية ويحدّ من القدرة على الصمود.
ويشدّد على أن الإصلاح المالي وحده لا يكفي ما لم يترافق مع تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام، ووقف الهدر، وتحسين كفاءة الإنفاق، وإعادة هيكلة الدين وجدولته، وتبنّي سياسات تشجّع الإنتاج الوطني وتقلّل التبعية الاقتصادية.
وحذّر موسى من أن كلفة استمرار الوضع القائم ستكون أعلى بكثير من كلفة الإصلاح، منبّهًا إلى أن تحميل المواطن أعباء الأزمة دون معالجة جذورها قد يؤدي إلى تداعيات اجتماعية واقتصادية يصعب احتواؤها مستقبلًا.

