فلسطين أون لاين

فشل الأمم المتحدة وتصدّع النظام الدولي: قراءة في لحظة انتقالية تعيد رسم العالم

نشأت معظم المنظمات الدولية الموجودة حاليًا في العالم في العام ١٩٤٥ بعد فشل عصبة الأمم المنشأة بعد الحرب العالمية الاولى (١٩١٤-١٩١٨)، لتكون الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٨) إيذانًا بتدشين عشرات المنظمات الدولية، والتي كان من ضمنها هيئة الأمم المتحدة, باعتبارها المنظمة الأكثر شمولًا لدول العالم، والتي ستكون محط اهتمامنا في هذا المقال، حيث إنها تضم ١٩٣ دولة تقريبًا كأعضاء، حيث حملت الأهداف الآتية:

- الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.

- تطوير العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ الحقوق المتساوية وتقرير المصير.

- تحقيق التعاون الدولي في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

- أن تكون مركزًا لتنسيق أعمال الدول لتحقيق هذه الغايات المشتركة.

ويعتبر الهدف الأول المذكور أعلاه أهمّ الأهداف نظرًا لقساوة الحرب على العالم، خصوصًا بعد خسارة عشرات الملايين خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن الذي لا يمكن التغاضي عنه، فشل منظمة الأمم المتحدة في وقف الحروب والمعارك الدامية بين الدول، لتكون بذلك مثبتةً عجزها دون تهاونٍ أو تغاضي، ولتوضيح ذلك نذكر بعض الأمثلة فيما يلي:

نشبت الحرب الكورية في العام ١٩٥٠ مستمرةً قرابة الثلاث سنوات بدعمٍ أمريكيٍ وسوفييتي منقسمٍ على الأطراف المقاتلة، فيما لم تفعل الأمم المتحدة أيّ شيءٍ يمكنها من إيقاف الحرب.

ليكون نشوب الحرب فشلًا ذريعًا للأمم المتحدة, ثم إن استمرار الحرب طوال سنينَ دامية دون اتخاذ قرارٍ من الهيئة بوقفها، ما يدلل على قدرتها المحدودة واستخدامها من القوى العظمى كأحد أدواتهم التي يمكنهم التحكم بها وتوظيفها لخدمة مصالحهم، كما تحدثت نظرية الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية.

بالإضافة لذلك، لا يمكن التغاضي عن مجريات الحرب الڤيتنامية الأمريكية، والتي استمرت منذ ستينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، حيث دعم الاتحاد السوفييتي قوات الفييت كونج دعمًا هائلًا, عمل على تغيير مجريات الحرب بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تتعرض قواتها لتكتيكات عسكرية وفق تدريبات سوفييتية عالية التعقيد.

بالإضافة لتقديم السوفييت لهم صواريخ مضاد للطيران، لتعمل الأخيرة على إضافة تحولات استراتيجية في سير المعارك، كما أثرت على انسحاب الولايات المتحدة, بعد تفكيرها مليًا في قصف فيتنام بقنبلة نووية في عهد الرئيس الأمريكي السابق (نيكسون)، ليكون ذلك إيذانًا باندلاع حربٍ هائلة التعقيد والضخامة، والتي يمكن أن ترقى لتكون حربًا نووية، بسبب دعم كل طرف من الأطراف العظمى لحلفائه في فيتنام، بل وتدخل الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر كقوة احتلال لفيتنام.

لينتهي الأمر باتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بتحديد المساعدات المقدمة منهم لحلفائهم، حتى سُمِّيَ ذلك العصر بعصر الوئام في العلاقات الدولية، وتسجل الأمم المتحدة في ذلك فشلًا ذريعًا آخر، لعدم اتخاذها أي قرار يؤثر بشكل إيجابي لإيقاف الحرب, التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشعب الفيتنامي, الذي عاش ويلات الحرب طوال عِقدين ونصف تقريبًا.

ثم إن الحرب السوفييتية الأفغانية لم تكن سوى خير برهان على العجز البنيوي داخل الأمم المتحدة, المانع لها من تثبيط أي دوافع للحرب لدى القوى الدولية، حيث اجتاحت القوات السوفييتية أفغانستان في ديسمبر ١٩٧٩.

وتستمر في حربها قرابة عقدٍ كامل دون اتخاذ أي قرارتٍ مجدية من هيئة الأمم المتحدة، حتى انسحاب الاتحاد السوفييتي في العام ١٩٨٩، وتبدأ حقبةً جديدةً من تولي حركة طالبان السلطة في طالبان، بعد أن أذنت للمقاتلين العرب بالبقاء في بلادها.

ثم تبدأ حربًا أشد ضراوةً من سابقتها، بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان الحاكمة للبلاد والمقاتلين العرب، بحجة رفض طالبان تسليم أسامة بن لادن, قائد تنظيم القاعدة, المتهم بتنظيم عملية الهجوم على برجي التجارة ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون).

وتكون تلك الحرب ضمن الحرب على الإرهاب، وتستمر الحرب قرابة العقدين دون أي نتائج حقيقية تحققها الولايات المتحدة، كما كان دور الأمم المتحدة كسابقه من الأدوار، دورًا مهترءاً لم يتخذ أي موقف فعلي يعمل على وقف الحرب على أفغانستان، بل استمرت في الشجب والتنديد والاستنكار.

وعلى صعيد قارة أوروبا، فإن بدء الحرب واستمرارها في البوسنة والهرسك منذ العام (١٩٩٢-١٩٩٥) دون اتخاذ قراراتٍ حقيقيةٍ فعلية منذ بداية الحرب, ضاعفت أعداد الضحايا دون اهتمامٍ بالشعب البوسني, الذي ذاق ويلات الحرب طوال سنواتٍ عدة.

حيث انتهت الحرب باتفاقية دايتون، بعد أن تعرض الشعب البوسني لجريمة الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، والتي اعتُبرت منطقةً آمنة بالنسبة للأمم المتحدة، لتكون قراراتها بلا فعاليةٍ فعلية.

كما لم تستطع الأمم المتحدة فعل شيءٍ يذكر ليوقف الحرب الروسية - الأوكرانية المستمرة منذ العام ٢٠٢٢ حتى اللحظة، باستثناء بعض القرارات التي لم تكترث لها روسيا بل تستمر في حربها، لعدة أهدافٍ سياسيةٍ من خلال الحرب العسكرية، الأمر الذي يؤكد فقدان الأمم المتحدة للقدرة على تحقيق أهدافها.

أخيرًا، لا يمكن تجاوز حالة الشعب الفلسطيني المقاتل لأجل نيل حريته من الاحتلال "الاسرائيلي" على مدار ثمانين سنة تقريبًا، ضمن ما عرف بالحروب غير المتكافئة دون أن تفعل الأمم المتحدة أي فعلٍ حقيقي يوقف الاحتلال "الاسرائيلي" لأرض فلسطين في العام ١٩٤٨.*
ثم إن حرب الأيام الستة في حزيران ١٩٦٧، مع احتلال "اسرائيل" لكل من قطاع غزة، الضفة الغربية، القدس الشرقية، شبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان، لتكون بذلك معتديةً على دولتين مستقلتين ومادةً احتلالها لأجزاء لم تستطع السيطرة عليها في فلسطين المحتلة خلال حرب عام ١٩٤٨.

محطمةً بذلك قرارات الأمم المتحدة القاضية بسيطرة مصر على قطاع غزة والأردن على الضفة الغربية والقدس الشرقية، ثم إنها لم تفعل شيئاً سوى إصدارها لقرار يدعو الاحتلال "الاسرائيلي" بالانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها خلال الحرب، إلا أن الاحتلال لم يكترث لتلك القرارات.

بل استمر في احتلاله لشبه جزيرة سيناء حتى العام ١٩٧٣ حين نشبت الحرب المصرية - "الاسرائيلية"، والتي مهدت لاتفاق السلام المصري - "الاسرائيلي" وفق اتفاقية كامب ديفيد المنعقدة بين الرئيس المصري محمد أنور السادات ونظيره "الاسرائيلي" مناحيم بيغين.
فيما استمرت في سيطرتها على هضبة الجولان دون تغييرٍ يذكر إلى يومنا هذا، كما أنها تستمر في احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية، وتنسحب من قطاع غزة في سبتمبر ٢٠٠٥، بسبب الضربات العسكرية من المقاومة الفلسطينية، التي دفعت من خلالها خسائر فادحة لم تحتملها.

كما أنها -الأمم المتحدة- لم تتخذ أي قرارات فعلية توقف التصعيدات والحروب "الاسرائيلية" ضد قطاع غزة، كما أن عدم قدرة الأمم المتحدة على وقف التمدد الاستيطاني "الإسرائيلي" في الضفة الغربية, يعبر عن فشلٍ آخر لها، غير أن الحرب الأخيرة على غزة كانت بمثابة الكاشفة للفشل الذريع للأمم المتحدة في ظل عصر السوشيال ميديا، وانتشار الجرائم "الاسرائيلية" على العلن ضد الأطفال والنساء وكبار السن.
لتثبت يومًا بعد يوم أنها منظمة فاشلة في تحقيق أي اختراقات حقيقية, توقف الدول عن أفعالها ضد بعضها البعض، وأن الحرب العالمية لم تنشب منذ تأسيسها وحتى اللحظة بسبب عدم رغبة الدول العظمى ببدئها، وليس بسبب قوة الأمم المتحدة وقدرتها على إنفاذ قراراتها.

كما تؤكد فشل ادعاء النظرية الليبرالية بتأثير المنظمات الدولية في تشكيل سياسات وسلوك الدول، خصوصًا في ظلّ الصلاحيات المطلقة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الموظفة لصالح الدول الخمس دائمة العضوية (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا) دون اكتراث لأيٍ من الدول الأخرى.

الأمر الذي يدعو تركيا كقوة صاعدة على سبيل المثال لا الحصر لرفع شعار: (العالم أكبر من خمسة)، في تعبيرٍ عن رفضها للسياسة العالمية الملخصة بتحكم القوى العظمى بالأجهزة الأكثر أهمية في الأمم المتحدة, مثل مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة.

الخلاصة:

تعتبر الفترة الراهنة التي نعيش من أوهن الفترات التي يعيشها النظام الدولي منذ تأسيسه خلال القرن الماضي، والتي يمكن خلالها نشوب حربٍ عالميةٍ ستكون أقسى من سابقاتها، مُشَكّلَةً نظامًا دوليًا جديدًا، خصوصًا بعد معايشة العنصر البشري لخمس أنظمةٍ دولية منذ معاهدة ويستفاليا ١٦٤٨ وحتى يومنا هذا، لتثبت فشلها نظامًا بعد الآخر، دون استقرارٍ حقيقيٍ يذكر.

ومع ذلك، فإن تتبّع مسار أداء الأمم المتحدة خلال العقود الماضية يكشف أن فاعليتها لم تكن نتاجًا لقدراتها المؤسسية بقدر ما كانت انعكاسًا لمعادلات القوة داخل النظام الدولي ذاته، حيث إن الأجهزة الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، تبدو محكومةً بمنطق الهيمنة أكثر من كونها أدوات مستقلة لحفظ السلم، الأمر الذي يجعل أداءها مرتبطًا بالبنية العميقة للنظام الدولي لا بأهداف الميثاق المعلنة.

حيث تشير المؤشرات البنيوية لاحتمال شبه إعادة لسيناريو ما بعد الحرب العالمية الثانية من حيث تولد نظامٍ دوليٍ جديد، لا يحوي "دولةً اسرائيلية" لتنال فلسطين حريتها، كما حدث مع العديد من الدول التي تفككت بعد الحرب العالمية الثانية بعد نشأتها بعد الحرب العالمية الأولى.

كما قد يقود انهيار التوازن الحالي بين القوى الدولية لتلاشي الهيمنة الأمريكية المفروضة على العالم، وإنهاء النظام أحادي القطبية من خلال توليد نظام متعدد القطبية مع صعود نجم الشرق الذي يتصاعد يومًا بعد يوم، خصوصًا بعد إيعاز الرئيس الصيني (شي جين بينغ) لجيشه بإعداد العدة للسيطرة على تايوان بحلول العام ٢٠٢٧، ما ينذر بعيش العالم في ظل لحظة انتقالية تتجاوز ما هو مألوف في العلاقات الدولية.

المصدر / فلسطين أون لاين