فلسطين أون لاين

تقرير الضَّفَّة على خطِّ التَّفكيك... هندسة ديموغرافيَّة متسارعة وجيش يخضع لسطوة المستوطنين

...
صورة من الأرشيف
غزة- نابلس/ محمد الأيوبي:

على امتداد الشمال الشرقي للضفة الغربية المحتلة، من طوباس حتى جنين وطولكرم، تتسارع العمليات العسكرية الإسرائيلية بخطوات متلاحقة، ضمن مسار يبدو أنه يتجاوز مفهوم "العمليات الاستباقية" إلى مشروع تفكيك جغرافي وديموغرافي يعيد هندسة الضفة الغربية بما يخدم جوهر المشروع الاستيطاني.

ومع انشغال العالم بالحرب على قطاع غزة، وصعود غير مسبوق لتيار الصهيونية الدينية داخل منظومة الحكم الإسرائيلية، تتوسع تلك الهندسة القسرية على الأرض، في حين يحذر خبراء من أن ما يجري في شمال الضفة اليوم قد يتحول إلى نموذج عام يلتهم ما تبقى من الجغرافيا الفلسطينية وبيئتها السكانية.

والاثنين الماضي، اقتحم رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير طوباس والأغوار الشمالية، برفقة عدد من كبار القادة العسكريين، بالتزامن مع عملية عسكرية جديدة أُطلق عليها "الحجارة الخمسة" في إشارة مباشرة إلى البلدات الخمس التي شملها الاجتياح والتي تُعرَّف في الأدبيات العسكرية الإسرائيلية باسم "مخمس القرى" وهي لفظة عملياتية صنعتها المؤسسة الأمنية لتجريد المنطقة من هويتها المدنية وتحويلها إلى مربع عسكري مغلق خارج الزمن والسكان.

هندسة ديموغرافية

يرى الخبير في الشؤون الإسرائيلية سليمان بشارات أن تركيز جيش الاحتلال على طوباس في هذا التوقيت ليس إجراءً معزولًا، بل جزءًا من منهجية أوسع يجري تضخيمها وتسويقها كعمليات "استباقية" تهدف، وفق الرواية الإسرائيلية، إلى تفكيك أي بنى تحتية مرتبطة بالمقاومة في شمال الضفة الغربية، ما يمنحه غطاءً سياسيًا وأمنيًا لتبرير تصعيده.

ويؤكد بشارات لصحيفة "فلسطين"، أن تفكير المؤسسة الإسرائيلية بات أكثر وضوحًا، إذ تُعد الضفة الغربية جوهر المشروع الاستيطاني، والمستقبل الحاسم لـ(إسرائيل) وفق تصور المستوى السياسي، لذلك تتعامل (تل أبيب) مع العمليات الجارية باعتبارها جزءًا من خطة بعيدة المدى لتعزيز الاستيطان وتغيير الوقائع على الأرض.

ويضيف أن قراءة الخارطة الميدانية الممتدة من طوباس حتى جنين وطولكرم توضح أن (إسرائيل) تستهدف "الشريط الشمالي" للضفة، وهو المقطع الأخير من جدار الفصل العنصري الذي بدأ العمل به عام 2002، بهدف تحويل الضفة إلى معازل وكنتونات منفصلة، وخلق فضاء جغرافي فلسطيني مقطع الأوصال ومنفصل بالكامل عن خارطة الاستيطان، بما يضمن فرض وقائع ديموغرافية وجغرافية تخدم المشروع الاستعماري.

ويشير إلى أن اللحظة السياسية تُغري (إسرائيل) بالمضي في هذه المشاريع؛ فالانشغال الدولي بالحرب على غزة، وتشوش الساحة الإقليمية، والأزمات الداخلية في (إسرائيل)، كلها ظروف تراها (تل أبيب) "مواتية" لتعزيز جوهر مشروعها الاستيطاني دون ضغوط تُذكر.

هذا الرأي يعززه الخبير في الشأن الإسرائيلي عادل شديد، الذي يصف المنطقة الممتدة شمال شرق الضفة—وتحديدًا طوباس والقرى المحيطة وصولًا إلى الأغوار—بأنها هدف لعملية "هندسة ديموغرافية وجغرافية شاملة" تريد من خلالها (إسرائيل) إعادة توزيع الوجود الفلسطيني بما يخدم مشروعها.

ويوضح شديد لـ"فلسطين"، أن الاحتلال يسعى لرسم خارطة جديدة تحدد أماكن وجود التجمعات الفلسطينية، في إطار مشروع تطهير عرقي بدأ منذ سنوات لكنه تسارع بشكل غير مسبوق بعد السابع من أكتوبر 2023.

ويحذر من أن ما تتعرض له طوباس الآن سيتمدد لاحقًا إلى مناطق أخرى، مشيرًا إلى "عملية صامتة" تجري بالتوازي في وسط الضفة وشرقها وجنوبها الشرقي، تستهدف عشرات القرى البدوية والريفية بالآليات نفسها التي تضرب طوباس.

ويشير إلى أن الاحتلال يستغل انشغال العالم بغزة لمحاولة تطبيق نسخة مشابهة في الضفة، عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي ومواردها—من المياه والزراعة والمرعى—ثم حشر الفلسطينيين في جيوب محاصَرة من كل الجهات. ويرى شديد أن الهدف النهائي هو تحويل هذه المناطق إلى بيئة طاردة وغير قابلة للحياة، بما يخدم توجهات التيار الديني الصهيوني الذي يهيمن اليوم على مفاصل الحكم في (إسرائيل)، والذي لم يرى للفلسطينيين مكانًا في الضفة الغربية أصلًا.

جيش خاضع للمستوطنين

ويصف شديد سلوك زمير خلال زيارته الميدانية للمنطقة بأنه انعكاس لتحول عميق في بنية الحكم داخل (إسرائيل)، إذ لم يعد يتصرف كرئيس أركان مستقل، بعدما فقدت المؤسسة العسكرية وزنها التقليدي داخل دائرة صنع القرار، لصالح تيار الصهيونية الدينية والمستوطنون الذين باتوا يسيطرون حتى على جيوب الجيش وجهاز "الشاباك".

ويشير إلى أن التباين الذي كان قائمًا في الماضي بين مواقف الجيش والأمن من جهة، والمستوى السياسي من جهة أخرى، تلاشى تمامًا، فقد أصبح هناك انسجام وتماهٍ كاملان، بل وقناعة راسخة لدى العديد من القادة العسكريين بأن الضفة الغربية هي "قلب أرض إسرائيل الكبرى"، وأنه لا مكان للشعب الفلسطيني فيها.

ويرى شديد أن زمير يحاول اليوم إثبات ولائه للمستوى السياسي الذي تهيمن عليه قوى المستوطنين، خاصة في ظل غياب أي قوة داخل المنظومة الإسرائيلية قادرة على كبح جماح هذا التيار الذي تعتبره شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي تهديدًا وجوديًا. ولذلك—بحسب شديد—لم يعد أمام زمير سوى التماهي الكامل مع هذه السياسات، باعتبارها الواقع الجديد الذي يحكم دولة الاحتلال.

وفي السياق، يؤكد بشارات وجود توافق عام بين المستوى السياسي والعسكري على مواصلة الخطط الحالية في الضفة، لكنه يشير إلى نقاشات داخلية تدور بين الأجهزة الأمنية حول مخاطر هذا المسار؛ فالجمع بين عمليات الجيش وهجمات المستوطنين، في ظل الانغلاق السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية وغياب الأمان الشخصي للفلسطينيين، يخلق—برأي العديد داخل المؤسسة الأمنية—بيئة خصبة لانفجار الضفة أو عودة العمل المقاوم.

ومع ذلك، يوضح بشارات أن صعود التيار اليميني المتطرف والصهيونية الدينية بقيادة بن غفير وسموترتش طغى على تلك التحذيرات، ودفع نحو تسريع الإجراءات الميدانية حتى لو حملت مخاطر أمنية، مشيرًا إلى أن السلوك الإسرائيلي خلال العامين الماضيين—من تضييق وقمع وانتهاكات واسعة—يعكس غياب أي إرادة للاستماع لمخاوف الأجهزة الأمنية، وانحيازًا واضحًا لفكرة "الحسم" بدل إدارة الصراع.

ويلفت إلى أن هذا التوجه هو عمليًا تطبيق لجوهر خطة سموتريتش لعام 2017، التي دعت إلى "حسم الصراع" في الضفة الغربية عبر تفكيك إمكانية الوجود السياسي الفلسطيني ومنع أي حالة مقاومة مستقبلية، وليس الاكتفاء بإدارة الصراع كما كان يجري في العقود السابقة.

المصدر / فلسطين أون لاين