*لَقَدْ كَان فِي قَصَصِهِمۡ عبرة}* يوسف111
يقف العالم اليوم أمام غزة تلميذاً، يرفع عينيه باحترام، يسمع صدى الأبطال في كل شارع وبيت، كل حارة وركن. يا تلاميذ غزة، علّمونا، قالها قباني منذ عقود، واليوم أصبح تلاميذ غزة أساتذة. في مدرستها القاسية، علمتنا غزة أن المرء قد يكون صغيراً بأحجامه، لكنه عظيم بإرادته. أن غزة، رغم ضآلة مساحتها وعدد سكانها، تستطيع أن تكون أسامة بن زيد رضي الله عنه في قيادة جيش النبي، وموسى عليه السلام الذي صنعه الله على عينه في بيت فرعون، ويوسف عليه السلام الذي تخطى كيد إخوته ولم ينكّب الطريق، ومُكّنت كما مُكّنت لغزة.
العبرة ليست بمساحة الأرض، ولا بحجم العدوان، ولا بعدد الحصار، بل بإرادة الثبات والحياة، بإرادة العزة والكرامة. أن تؤمن بأنك قادر، وأنه من جد وجد، ومن زرع حصد، ومن أعد قاتل، ومن قاوم انتصر، ومن ثبت ظفر. غزة علمتنا أن الإعداد مدرسة، والصبر منهج، والعقيدة سلوك، لا مجرد كلمات. غزة بنت جيلاً من طراز فريد، جيل قرآني، أصيل، قادر على تجاوز كل عائق، لم يُقعده وهن الجسد، ولا ضعف المرحلة، ولا غثائية الأمة. أسطورة تتجاوز المكان والزمان، أبطالها يمشون على خطى جابر وأنس ومصعب والبراء، وتحيط بهم مواكب حفظة القرآن بالآلاف، تاج وقار، يصنعون المجد بالصبر والجهاد.
المحن طريق للتمايز، والابتلاء سنة الأنبياء. وغزة، خافضة ورافعة، كاشفة وفاضحة، أصبحت الغربال الذي يميز الحق من الباطل، والعدل من الظلم، في منظومة عالمية غارقة في الظلم والتحيز، عاجزة عن إقامة العدالة وحماية الضعفاء. علمتنا غزة أن الحق ينتزع، وأنه دون قوة مجرد كلمة، وأن العالم الظالم ينحني أمام قوة أصحاب الحق، وأن الثبات في الأرض هو الطريق، ما بقي الزعتر والزيتون.
الثبات ليس شعارات، بل طريق صعب، فالفاتورة باهظة، ودماؤه غزيرة، لكن ثماره عظيمة. غزة آمنت بقدرها، كانت عمود خيمة، ورمانة ميزان، وصمام أمان. فالثبات قدرها، وإلا لسقطت حجارة الدومينو العربية، وهوت دول وعروش، وساد الإفساد الصهيوني. غزة علمتنا أن الظلم مهما علا لن يصمد أمام مقاومته، وأن الحق مهما ضعُف طالما يقاوم سينتصر، وأن تحرير فلسطين ممكن، بل قاب قوسين أو أدنى، وأن طوفان غزة بروفة التحرير، وأن الغيث الأول يبشّر بانهمار النصر لاحقاً.
غزة علمتنا أن هزيمة الوهن أساس النصر، وأن حب الدنيا وكراهية الموت طريق الذل، وأن من يطلب الموت توهب له الحياة، وهذا هو التحصين النفسي والبناء الإنساني لجيل التحرير. أن الهزيمة تبدأ من الداخل، والنصر كذلك، وأن ترتيب الأولويات وفق إرادة الله تعالى أساس الحياة، فالأخرة خير وأبقى. والموت، محطة انتقال لحياة أرحب، { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (آل عمران: 169).
الشهادة في زمن الإفساد الثاني شرف، في خير رباطكم عسقلان، في معركة ناصعة، راية الحق فيها مرفوعة، { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِد } (الإسراء: 7). وغزة تحمل هذا الشرف المركب، في ملحمتها، في مهمتها، في مكانتها، في زمانها، وفي نتيجتها، شرف البشارة والوعد، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم، واحتفلوا بقدرة غزة على أن تُعلّم العالم المعنى والقيمة في زمن سقط فيه المعنى والقيم.

