فلسطين أون لاين

​يعرفون عنا فماذا نعرف عنهم؟

كان رسول الله ﷺ حريصًا على معرفة أحوال قريش حين كان في مكة، أو بعدما هاجر منها، من الأخبار التي ينقلها إليه الصحابة بطريقة أو بأخرى، ممن كانوا بحكم الأمر الواقع مطلعين، أو من كانوا يكلفهم بمهمة استطلاع الأحوال والأوضاع.

والمغول الذين يقتصر تصورنا عنهم على أنهم أفعالهم وحشية، من قتل جماعي، وحرق الكتب، وتدمير وتخريب معالم المدن والحضارة كانوا قبل مهاجمة أي مدينة أو تجمع يجمعون المعلومات عن كل شاردة وواردة، فيعرفون عوامل القوة والضعف والتراكيب السياسية والاجتماعية والظروف الاقتصادية والقادة وظروفهم، ويدرسون المعتقدات الدينية ومدى تأثيرها، وحين كانوا يهاجمون مكانًا يكون أشبه بساحة مكشوفة أمامهم ليس عسكريًّا فقط بل أيضًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.

والأمثلة كثيرة جدًّا، وهذا يدخل في علوم المخابرات التي لا تقتصر فقط كما يخال بعض الناس على الجوانب الأمنية والعسكرية.

والدول والمنظومات الغربية في القرون الأخيرة استوعبت أهمية دراسة العدو، والصديق، ومن هو في حالة حياد، بطريقة شمولية مهنية، فأرسلت حملات الاستكشاف، وابتكرت الاستشراق، واستغلت بعثات أو إرساليات التبشير، وأرسلت الجواسيس المتغطين بمهمات علمية أو دينية أو سياسية، فنفذوا مهمات بعض منها كان له أثر كبير في صياغة مستقبل مناطق ومجتمعات ودول، ومن أشهر هؤلاء توماس إدوارد لورنس الجاسوس الإنجليزي الشهير بـ"لورنس العرب".

لقد كان لمنطقتنا العربية والإسلامية حصة الأسد من جهود جمع المعلومات وتحليلها وصياغة الدراسات المختلفة عن كل صغيرة وكبيرة فيها، خاصة أن منطقتنا حيوية في العالم؛ فهي ممر مهم جدًّا لطرق التجارة والملاحة، وغنية بالثروات الطبيعية التي كانوا وما زالوا بحاجة إليها في ظل التطور الصناعي عندهم، وأيضًا لأهميتها الحضارية والثقافية، وهي عوامل تضاف إلى الرغبة بإيجاد نوع متطور من الحملات الصليبية، واستخلاص العبر من فشل الحملات الصليبية ما بين القرنين الـ11 والـ13 الميلاديين، التي كان لقلة المعلومات بل الأوهام والتصورات الخطأ دور كبير في فشلها.

لقد دخلوا إلى كل دولة ومؤسسة وكل بيت مباشرة أو عبر أدوات متطورة، وصاروا يعرفون عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، إلى درجة أن الراحل إدوارد سعيد يقول: "إنهم كتبوا عنا 60 ألف مصنف، وهو ما لم نكتبه نحن عن أنفسنا".

وساهمت العولمة والتقنيات الحديثة في زيادة معرفتهم بأحوالنا المختلفة، ولم يعد الأمر خاصًّا بأجهزة المخابرات ذات الإمكانات الضخمة علميًّا وماديًّا، التي فيها أقسام متخصصة بأحوالنا التفصيلية، فهناك أيضًا أنشطة أكاديمية علنية تدرس وتحلل ثم تقدم التوصيات والاستنتاجات، وهي تعمل علنًا بلا عوائق في كل مجتمعاتنا تقريبًا.

حسنًا، وما الجديد؟، فمن الطبيعي في هذه الدنيا عبر كل العصور جمع المعلومات عن عدو قائم أو محتمل أو صديق أو حليف، فلم هذا الكلام؟، نعم، صحيح، وأنا لا أريد أن أسأل عن أمريكا وأوروبا والصين والهند، بل عمن يحتلون أرضنا ويهددون كينونتنا: ماذا نعرف عنهم؟، وهل ما نعرفه عنهم صحيح ودقيق؟، وما فائدة المعلومات إذا وجدت أصلًا؟، والنقطة الأخيرة مهمة جدًّا، فليس فقط الحصول على المعلومة الصحيحة هو المهم، بل كيفية الانتفاع بها واتخاذ القرارات المناسبة بناء عليها؛ فما الفائدة من المفاخرة بأن رجل المخابرات المصرية "رفعت الجمال" المعروف لدينا بـ"رأفت الهجان" بفعل الدراما التي ما زالت تعرضها بعض القنوات المتلفزة قد استطاع معرفة توقيت الهجوم الإسرائيلي على مصر في 5/6/1967م، وإيصال المعلومة المهمة إلى رؤسائه في مصر؟!، ما النتيجة؟!، بل ما مدى تأثير هذه المعلومة القيمة على استعدادات واحتياطات وتكتيكات الجيش المصري وسائر الجيوش العربية؟!

دعونا الآن ننظر إلى القوم، كيف يعرفون عنا كل شيء تقريبًا؛ فهناك في مجتمع العدو الإسرائيلي أناس كثيرون لا يعرفون شيئًا يذكر عن الفلسطينيين حتى الذين يعيشون قريبًا منهم، بل بعضهم لديه تصورات سخيفة ونمطية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولكن هؤلاء ليسوا من يرسم السياسات ويقدم التوصيات.

حقيقة لقد أدرك قادة العدو مبكرًا ضرورة دراسة المجتمع الفلسطيني كل تفصيلاته، وليس فقط ما يخص الجوانب الأمنية، فهذه تحصيل حاصل، مع أنها ذات اهتمام مركزي في وعي قادة الاحتلال؛ فقد أنشؤوا _وما زالوا_ مؤسسات لتعلم اللغة العربية، وهذا مهم؛ فمعرفة لغة عدوك ضرورية، واتبعوا أساليب مختلفة ليعرفوا ما يدور في أسواق المدن وطوابين القرى ومضارب البدو بأدق التفصيلات، حتى إنهم لم يكتفوا بشبكات الجواسيس والعملاء الذين باعوا أنفسهم إلى الشيطان، فهناك كما اعترفوا بأنفسهم عناصر مخابرات يهود دخلوا إلى تجمعات سكنية متنكرين بهويات عربية وعاشوا فيها، وبعضهم تزوج وأنجب وهو يساكن من يحسبونه منهم وهو عدو مبين لهم، فعرف عنهم كل شيء: كيف يفكرون؟، ونقاط الضعف ونقاط القوة عندهم، ومن المؤثر؟، وما أكثر شيء يغضبهم؟، وما أكثر شيء يفرحهم؟، ومأكلهم ومشربهم وملبسهم، وما فلسفة حياتهم؟

ومع تطور التكنولوجيا زادت شراهتهم في جمع المعلومات وتحليلها وبناء الخطط القصيرة والمتوسطة والطويلة الأمد بناء عليها، ولم يتوقفوا عن الأساليب التقليدية المباشرة في معرفة كل شيء، على وفق قاعدة مفادها أن كل معلومة مفيدة ومهمة، ولو بعد حين، وذلك بالحديث الاستقصائي الإجباري مع الناس في الطرق التي تنصب عليها الحواجز، أو مداهمة المنازل وأماكن العمل.

ولهم مصدر معلومات متنوع ثري هو الأسرى، الذين لم يتوقفوا على مدار أجيال عن إدخالهم إلى السجون، ومن خاض التجربة الاعتقالية يلاحظ أن القضية الأمنية للأسير لا تحظى بـ20% من الأسئلة والوقت المخصص لها، وهي التي سيحاكم عليها الأسير، وسبب اعتقاله واستهدافه أصلًا، بل هناك اهتمام بجمع المعلومات الشخصية والعادية، ومن ذلك النكت والطرائف والأمثال الشعبية، والحرص على تدوينها وتكرارها، وصولًا إلى الأكل ونوعيته وطريقة تحضيره في البيت، والآراء الفقهية الإسلامية في مختلف القضايا، خاصة أن منهم من هو مختص بهذه الأمور ودرسها في الجامعة.

هم يجمعون المعلومات ثم يصنفونها ويفرزونها، ثم يحللونها، مستخدمين الطرق الإحصائية، ومستعينين بخبراء علم النفس والاجتماع والتاريخ، ويقدمونها للمسئولين في الأمن والجيش، ويتصرفون معنا بناء عليها، وعند وقوع أي إخفاق _وهذا حدث كثيرًا_ يعمدون إلى التعمق أكثر في جمع المعلومات وتدقيقها وتحليلها، واستخلاص العبر من الأخطاء بعد تحديد موضعها.

وفي الوقت نفسه يبثون في الإعلام أخبارًا ومقولات تختلف عن طبيعة دراستهم للظواهر، وما بحوزتهم من معلومات، وطريقة تحليلهم لها، ونواياهم للعمل بناء عليها.

يعرفون ويعرفون ويعرفون عنا، عمن كان مقاومًا يريدون اغتياله أو اعتقاله، ومن يظن أنه في خارج دائرة الاستهداف لأنه ليس مقاومًا، فنحن جميعًا بنظرهم من الأعداء الواجب هزيمتهم وتدميرهم وتحطيمهم.

وفي مقابل هذا الانكشاف أمامهم ماذا نعرف نحن عنهم؟، وهل معلوماتنا عنهم صحيحة ودقيقة؟، وكم أفادتنا؟، لاشك أننا لا نمتلك إمكاناتهم الرهيبة، بل نحن في قفص كبير، ويمكنهم مراقبة كل حركة حتى كل نفس في هذا القفص، ولهم منظومة أمنية وعسكرية محصنة تعجز أمامها دول، فكيف بشعب أعزل تحت حرابهم؟!، هذا صحيح، ولكنه لا يبرر هذا الجهل الذي نراه بأحوالهم بعد هذه السنين الطويلة، خاصة أن هناك ما يمكن معرفته ودراسته دون جهود مخابراتية بوليسية، وهو مهم ولا يستهان به.