تنذر وقائع المنظومة الصحية في غزة بخطر الانهيار الكامل جراء حرب الإبادة الإسرائيلية الجماعية، وعرقلة الاحتلال دخول شاحنات المساعدات الصحية الدولية لإعادة بناءها أو ترميمها مجددا، رغم سريان اتفاق وقف حرب الإبادة الذي وقع في مدينة شرم الشيخ المصرية الشهر الماضي.
وبينما يتكدس مئات الجرحى والمرضي في 13 مستشفى يعمل جزئيا، تعجز وزارة الصحة عن إعادة بناء 25 مستشفى و103 مركزا صحيا للرعاية الأولية، ومواجهة سلسلة أزمات صحية عاصفة: كالدواء والمستلزمات الطبية، الأجهزة الطبية والمختبرات، انتشار الأمراض والأوبئة وغيرهما.
ووفقا لتقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة فإن أكثر من 80% من المرافق الصحية في غزة أصبحت خارج الخدمة، وأن القطاع المنكوب فقد ما لا يقل عن 70% من مركبات الإسعاف، وتعجز البقية عن الحركة بسبب نفاد الوقود.
ووثقت منظمة الصحة العالمية في هذا السياق أكثر من 686 استهدافا مباشرا للمرافق الصحية مما يمثل خرقا صارخا لاتفاقيات جنيف، وبتقديراتها فإن إعادة بناء النظام الصحي في غزة يتطلب الحاجة إلى ما لا يقل عن سبعة مليارات دولار.
ورغم اتفاق وقف حرب الإبادة الجماعية على غزة في 10 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، برعاية مصر وقطر وتركيا وإشراف الإدارة الأمريكية، يعرقل الاحتلال دخول شاحنات المساعدات الإنسانية والغذائية والصحية منها.
سياسة إسرائيلية مدروسة
وبحسب مدير عام وزارة الصحة د. منير البرش فإن نسبة الدمار الكلي في الأبنية والمرافق يصل لـ75 بالمئة الأمر الذي ترك المنظومة الصحية "تصارع البقاء" من أجل مداواة الجرحى أو علاج بعض المرضى.
وأكد البرش في حديثه لصحيفة "فلسطين" أن الاحتلال يتعمد حاليا منع دخول المواد اللازمة لإعادة بناء المنظومة الصحية عبر المؤسسات الدولية والهيئات الأممية كما يعتقل بعض الموظفين الدوليين والأمميين رغم حصولهم على تصاريح للتنقل.
وأشار إلى أن ما دخل غزة لصالح المنظومة الصحية منذ بدء اتفاق وقف الحرب يقدر بـ60 شاحنة فقط بنسبة لا تتجاوز 10 بالمئة، مشددا على الاحتلال يتعمد "سياسية التقطير" في إدخال المساعدات عدا عن تحكمه في دخول الأنواع والأصناف.
واستدل بمنع الاحتلال دخول مستلزمات غرف العمليات والطوارئ، وكذلك علاجات وبروتوكولات صحية متخصصة لإنقاذ أصحاب الأمراض المزمنة والأطفال وكبار السن من سوء التغذية.
وذكر أن 42٪ من أصحاب الأمراض المزمنة ارتقوا خلال حرب الإبادة جراء نقص الرعاية الطبية من أصل 350 ألف مريض مزمن حاليا في غزة لا تتوفر لديهم الأدوية الخاصة، و18 ألف مريض يحتاجون للسفر للعلاج في الخارج.
وتطرق إلى معاناة 12 ألف مريض سرطان و700 مريض فشل كلوي يعانون نقص الأدوية والعلاجات والتنوع الغذائي.
وأكد البرش أن هناك عجز بنسبة 65% في مستودعات الوزارة من الأدوية وبعض الأدوية الأساسية رصيدها صفر، وليس هذا فحسب بل إن نسبة العجز في المستلزمات الطبية وصلت لـ70% وهي نسب غير مسبوقة في غزة.
ومثالا على ذلك، وصلت نسبة العجز في المستلزمات الجراحية لتخصصات القلب والعظام والأوعية الدموية وجراحة المخ والأعصاب بنسبة 90%.
وقال إن سيطرة الاحتلال على مناطق في غزة أعاق المنظومة الصحية عن إعادة تأهيل بناء مستشفيات ميدانية بديلا عنها كـ(مستشفى الإندونيسي، كمال عدوان، الدرة، مجمع حيفا الطبي) في تلك المناطق المحظورة على المدنيين والطاقم الطبي.
وأضاف أن هذه الحالة ضاعفت الضغط على المستشفيات القليلة المتبقية وجعلها عاجزة عن تقديم الخدمات الكاملة للمرضى والجرحى.
ووفقا للمسؤول الطبي فإن الاحتلال تعمد تدمير مستشفيات ومراكز صحية أعيد ترميها خلال حرب الإبادة كمستشفى العيون المركزي ومستشفى الرنتيسي للأطفال.
وبناء على ذلك، ناشد المجتمع الدولي الضغط على (إسرائيل) من أجل إنقاذ المنظومة الصحية في غزة والنجاة بأرواح المدنيين من خطر كارثة صحية كبيرة في القطاع الذي تعرض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة في العصر الحديث.
وطالب الوسطاء بمراقبة البروتوكول الإنساني لاتفاق وقف إطلاق النار من أجل ضمان دخول كاف لجميع الاحتياجات الإنسانية الهائلة لأزيد عن 2.3 مليون إنسان في غزة.
إنقاذ الجيل الجديد
وبرأي مدير جمعية الإغاثة الطبية في مدينة غزة د. محمد أبو عفش فإن مرحلة التعافي للمنظومة الصحية تتطلب إدخال مستلزمات عاجلة لإعادة تشغيل المرافق وتوفير الرعاية الأولية.
وأوضح أبو عفش في حديثه لصحيفة "فلسطين" أن الرعاية الصحية الأولية التي تشمل خدمات الحوامل والأطفال ومرضى الأمراض المزمنة تواجه تدهورا خطيرا نتيجة الدمار الإسرائيلي وعرقلة الاحتلال دخول المساعدات الطبية إلى غزة.
وشدد على الأهمية العاجلة والقصوى في إنقاذ الجيل الجديد من آثار الحرب وسوء التغذية، منبها إلى أن غزة بحاجة ماسة إلى مراكز متخصصة لمعالجة هذه الحالات.
وقال إن العجز في المستلزمات الطبية وأجهزة المختبرات والأشعة بلغ مستويات مقلقة، الأمر الذي يعيق تقديم أي رعاية مناسبة للمرضى ويجعل الوضع الصحي في غزة على حافة الانهيار الكامل ما لم تُفتح المعابر بشكل منتظم لإدخال الإمدادات اللازمة.
وفي هذا السياق، شدد على ضرورة السماح للمنظمات الأممية والدولية بإدخال الوفود الطبية والمستشفيات الميدانية والعيادات المتنقلة المجهزة بمختلف المعدات والتقنيات الحديثة لتغطية الاحتياجات الهائلة والملحة في غزة.
أوضاع كارثية
ودفعت الوقائع والمعطيات الصحية السابقة بممثل منظمة الصحة العالمية في الأرض الفلسطينية المحتلة ريك بيبركورن لوصف الأوضاع الصحية في غزة بـ"الكارثية"، حيث تعمل المستشفيات بما يفوق طاقتها القصوى في ظل النفاد التام لبعض الأدوية المنقذة للحياة وتزايد الوفيات الناجمة عن سوء التغذية والأمراض.
وأوضح بيبركورن، خلال مؤتمر صحفي عقده أخيرا، أن أقل من نصف مستشفيات غزة وأقل من 38% من مراكز الرعاية الصحية الأولية تعمل جزئيا - أو بمستويات دنيا.
وتطرق إلى حالات التهاب السحايا المشتبه بها 452 حالة بين يوليو وأوائل أغسطس - وهو أعلى رقم منذ بدء الحرب - كما ارتفعت الإصابات بمتلازمة غيلان باريه، وهي مرض عصبي ومناعي يصيب الجهاز العصبي ويسبب شللا عضليا تدريجيا، حيث سُجلت 76 حالة مشتبه بها منذ يونيو.
وأوضح أن علاج كلتا الحالتين أصعب بسبب انعدام مخزون الأدوية الحيوية بما في ذلك الغلوبولين المناعي الوريدي ومضادات الالتهاب.
وقال إن وصول الفرق الطبية الدولية والإمدادات الطبية إلى غزة يشكل عقبة رئيسية، مشيرا إلى رفض الاحتلال دخول المسعفين الدوليين وتعطيل دخول مواد أساسية مثل معدات العناية المركزة وأجهزة التخدير ولوازم سلسلة التبريد.
وأكد أن دخول شاحنات الإمدادات الطبية إلى غزة بطيئة وغير متوقعة، حيث تتأخر أو تُرفض العديد من الشحنات.
ولأجل ذلك، شدد ممثل الصحة العالمية على ضرورة فتح (إسرائيل) إلى العديد من المعابر المؤدية إلى غزة وتبسيط الإجراءات ورفع عوائق الوصول، وختم: "نسمع عن السماح بدخول مزيد من الإمدادات الإنسانية، لكن هذا لا يحدث، أو يحدث ببطء شديد".
وكان المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك قال إن الإمدادات الإنسانية التي تدخل القطاع لا تزال أقل من الحد الأدنى المطلوب لتلبية الاحتياجات الهائلة.

