فلسطين أون لاين

تقرير الهجرة العكسية تتسع في (إسرائيل).. "نزيف الكفاءات" يضرب أساس "الحلم الصهيوني"

...
الهجرة العكسية تتسع في (إسرائيل).. "نزيف الكفاءات" يضرب أساس "الحلم الصهيوني"
الناصرة-غزة/ محمد الأيوبي:

لم تعد "أرض الميعاد" التي بشر بها قادة المشروع الصهيوني تبدو آمنة أو مُغرية ليهود العالم كما كانت، إذ تصاعدت في دولة الاحتلال خلال الأعوام الأخيرة، موجة الهجرة العكسية بوتيرة غير مسبوقة، لتتحول إلى ظاهرة تكشف هشاشة البنية الداخلية للمجتمع الإسرائيلي وتآكل الإيمان بفكرة "الوطن الآمن".

وتشير تقارير إسرائيلية رسمية إلى أن هذه الظاهرة أخذت منحى أكثر وضوحًا بعد "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث تصاعد الشعور بانعدام الأمان، وتراجعت الثقة في مؤسسات دولة الاحتلال، ما أعاد إلى الواجهة أسئلة جوهرية حول مستقبل "الحلم الصهيوني" ذاته.

فبحسب تقرير صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست، غادر دولة الاحتلال منذ عام 2020 وحتى أغسطس 2024 نحو 269 ألف إسرائيلي لفترات طويلة، وهو العدد الأعلى منذ عقود، مقابل 132 ألفًا فقط عادوا إليها. ووصف رئيس لجنة استيعاب الهجرة في الكنيست جلعاد كريف هذه الموجة بأنها ليست مجرد هجرة، بل "تسونامي"، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الإسرائيليين "يفضلون بناء مستقبلهم في الخارج، بينما يتراجع عدد من يرغبون في العودة".

وحذر كريف من أن "الهجرة العكسية تمثل خطرًا استراتيجيًا على مناعة المجتمع الإسرائيلي"، معتبرًا أنها "نتيجة مباشرة لسياسات الحكومة التي عمقت الانقسام وأهملت الجبهة الداخلية قبل الحرب وبعدها".

لا تعكس الحقيقة

ورغم ضخامة الأرقام الرسمية، يرى الباحث في الشؤون الإسرائيلية شادي الشرفا، أنها تُمثل الحد الأدنى فقط، ولا تعكس الحجم الحقيقي للمغادرين، بسبب طبيعة التعريف القانوني للهجرة داخل (إسرائيل)، الذي لا يحتسب الكثير ممن يغادرون دون التنازل عن الجنسية أو من يعودون لفترات قصيرة ثم يرحلون مجددًا.

ويوضح الشرفا لصحيفة "فلسطين"، أن آلية الإحصاء الرسمية تقلل من حجم الظاهرة، إذ يعرف قانون الجنسية لعام 1952 المهاجر فقط بمن يتنازل رسميًا عن جنسيته، وهو أمر نادر بسبب الامتيازات الواسعة التي توفرها الدولة، كما أن قانون العودة لعام 1950 يعتبر من يغادر لأقل من 275 يومًا غير مهاجر، وإن عاد في أي وقت يُسقط عنه احتساب الهجرة.

وبحسب الشرفا، فإن تقديرات الباحثين والمؤرخين داخل (إسرائيل) تشير إلى أرقام أكبر بكثير، إذ يشير المؤرخ "إيلان بابيه"، إلى أن نحو 700 ألف إسرائيلي غادروا دولة الاحتلال منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر عام 2023، وهو رقم ضخم قياسًا بتعداد الإسرائيليين.

الأمر الأهم، بحسب الشرفا، ليس عدد المهاجرين، بل طبيعة الفئات التي تغادر إذ يغادر (إسرائيل) بشكل أساسي الشباب، وأصحاب التخصصات العلمية والمهنية المتقدمة، مثل الأطباء والمهندسين وخبراء التكنولوجيا. ويرى أن هذا يشكل تحديًا استراتيجيًا لـ(إسرائيل)، لأنه يهدد هيكلها الاقتصادي والاجتماعي، ويعزز في المقابل الثقل الديموغرافي للفئات الحريدية والمستوطنين، الذين يتمتعون بحوافز اقتصادية واسعة ويُعفون من أعباء التجنيد.

ويشير إلى أن الهجرة العكسية لا ترتبط فقط بالناحية الأمنية أو بالخوف من الحروب، بل تمتد إلى أزمة بنيوية داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، فقد شهد العقد الأخير تصاعدًا حادًا في الانقسام السياسي الداخلي، خاصة منذ صعود خطاب "نحن وهم" الذي تبناه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، والذي أدى إلى شرخ عميق في المجتمع بين التيارات العلمانية واليمينية الدينية. كما تراجعت ثقة قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى في مؤسسات الدولة، خصوصًا بعد مشروع "الانقلاب القضائي" الذي اعتبر محاولة لتغيير هوية الدولة وتقويض استقلال القضاء.

ويضيف أن هذا الانقسام تعمق بعد حرب السابع من أكتوبر، التي كسرت الصورة التقليدية لجيش الاحتلال باعتباره "الضامن الأول للأمن". ومع تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع تكاليف المعيشة، تزايد شعور كثير من الإسرائيليين بأن الدولة لم تعد قادرة على توفير "الأمان" ولا "الاستقرار"، وهما الركيزتان الأساسيتان لخطاب الدولة منذ تأسيسها.

وبحسب الشرفا، فإن ما يزيد من هذا الشعور هو نظام توزيع الأعباء داخل المجتمع؛ فبينما تتحمل الفئات المدنية والعلمانية أعباء التجنيد والضرائب، يستمر الإعفاء الواسع للحريديم من الخدمة العسكرية، إلى جانب الامتيازات المالية الكبيرة التي يحصلون عليها، ما عزز الشعور بعدم العدالة ودفع المزيد من الشرائح إلى التفكير في مغادرة دولة الاحتلال.

لعنة العقد الثامن

من جانبه، الخبير في الشأن الإسرائيلي د. محمد عبود يرى أن ظاهرة الهجرة العكسية ليست جديدة، بل هي مرتبطة بنشأة دولة الاحتلال منذ عام 1948، حين غادرها نحو 60 ألف يهودي في اول ثلاث أعوام دون عودة.

ويوضح عبود لصحيفة "فلسطين" أن الدوافع الأولى لتلك الهجرات كانت اجتماعية واقتصادية، إذ وجد كثير من المهاجرين الأوائل أنفسهم في مجتمع تسوده الخلافات والفوارق الطبقية، لكن المسبب الأبرز في العقود التالية كان العامل العسكري، مع تكرار الحروب وعدم الاستقرار الأمني، مشيرًا إلى أن مشاهد هروب الإسرائيليين بحرًا إلى قبرص واليونان أثناء الحرب الإيرانية الإسرائيلية كان صادمًا وكشف حجم القلق داخل المجتمع الإسرائيلي.

وبين أن النظرة السائدة في (إسرائيل) تجاه المهاجرين العكسيين تتسم بالعداء، إذ يُنظر إليهم على أنهم "خونة للمشروع الصهيوني"، يهربون من المواجهة العسكرية بحثًا عن حياة أكثر أمانًا في الخارج، مما يفاقم ما يُعرف بـ"نزيف العقول" ويؤدي إلى تراجع الكفاءات في القطاعات الحيوية، خصوصًا في التكنولوجيا المتقدمة والجيش.

ولفت إلى أن (تل أبيب)، التي تُعد القلب الاقتصادي والثقافي للكيان، تتصدر المدن في عدد المهاجرين، إذ تمثل معقل اليسار العلماني الثري القادر على الرحيل نحو أوروبا، مشيرًا أن هذه النخبة بدأت تفقد الثقة بمستقبل الدولة في ظل هيمنة التيار الديني اليميني.

كما أشار إلى أن (إسرائيل) تحتل المرتبة الثامنة عالميًا في عدد طالبي الجنسية الأجنبية، إذ بات الجواز الأجنبي يُنظر إليه كـ"بوليصة تأمين على الحياة" ضد المخاطر الأمنية أو حتى في حالات الأسر، كما ظهر في مفاوضات تبادل الأسرى الأخيرة.

ويرى عبود أن موجات الهجرة من (تل أبيب) مرتبطة أيضًا بحالة الإكراه الديني التي يمارسها الحاخامات ضمن ما يُعرف بالعبرية بـ"هخزرة بشوفا"، أي إعادة العلمانيين إلى "حظيرة الدين"، وهو ما يثير رفضًا واسعًا لدى اليسار العلماني الذي بات يرى أن "لا مستقبل له في (إسرائيل)".

كما ربط الخبير بين هذه الظاهرة وبين ما يُعرف في الأدبيات الإسرائيلية بـ"لعنة العقد الثامن"، أي الاعتقاد بأن (إسرائيل) تسير نحو حتفها التاريخي، مستشهدًا برواية الأديب الإسرائيلي أبرهام يهوشوع "في مواجهة الغابات"، التي شبه فيها (إسرائيل) بـ"غابة اصطناعية" قد تحترق لتعود فلسطين لتظهر من تحت رمادها.

ويعتقد بعض المثقفين الإسرائيليين، كما يقول عبود، أن مصير (إسرائيل) قد يكون كمصير الصليبيين الذين "جاؤوا عبر البحر ثم رحلوا عبره"، معتبرين أن الهجرة العكسية تمثل أحد مؤشرات تراجع المشروع الصهيوني.

ولفت إلى أن الهجرة العكسية كانت دائمًا هاجسًا لحكومات الاحتلال المتعاقبة، إذ وصفها إسحاق رابين عام 1976 بأنها "هروب حفنة من الجبناء"، بينما رأى مناحيم بيغن أن كل من يغادر (إسرائيل) يجعلها تخسر أربع فرق عسكرية. أما إيهود باراك فدعا إلى "تخفيف حالة التديين والتطرف" لإعادة (إسرائيل) إلى صورتها كدولة جاذبة لليهود، وليس طاردة لهم.

المصدر / فلسطين أون لاين