لم تكن كاميرته سلاحًا، ولم يكن في يده سوى حقيبة معدات تصوير، لكنه رغم ذلك اعتُقل وضُرب وأُهين، فقط لأنه صحفي فلسطيني.
علاء السراج (34 عامًا)، مصوّر صحفي وأبٌ لخمسة أطفال، اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 خلال محاولته عبور ما يُعرف بـ"الممر الآمن" من وسط قطاع غزة إلى جنوبه، بعد أن دُمّر منزله في حي الصبرة بمدينة غزة في اليوم الثاني من الحرب.
ويقول السراج لصحيفة "فلسطين" بعد الإفراج عنه ضمن صفقة تبادل الأسرى التي جرت في 13 أكتوبر الجاري بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بوساطة دولية: "كنت مع زوجتي وأطفالي نحاول الهروب من الموت، بعد أن استهدف الاحتلال منزلنا، فهربنا إلى بيت أحد أقاربنا، لكنه قُصف أيضًا، فلم يكن أمامي سوى الاتجاه جنوبًا، كما طلب الاحتلال نفسه".

لا استثناء للصحفيين
حين وصل "علاء" إلى حاجز "نيتساريم"، كان يحمل معداته الصحفية التي تفوق قيمتها 35 ألف دولار، وساعد رجلًا مسنًا على اجتياز الحاجز. فجأة، وعبر مكبرات الصوت، طالبه جنود الاحتلال بترك الرجل المسن ومعداته، والتوجه إلى جهة أخرى، ومن هناك بدأت رحلته مع السجن والتعذيب.
ويضيف السراج بغضب: "طلبوا مني خلع ملابسي وتفتيشي وأنا عارٍ تمامًا خلف كثبان رملية، ثم قيدوا يديّ وعصبوا عينيّ، ونقلوني إلى مبنى لبدء التحقيق".
ويروي السراج، الذي استمر التحقيق معه حول عمله الصحفي، أنهم هددوه بقتل عائلته: "كنت أسمع أنفاسهم خلفي، كانوا يتعمدون ترهيبي حتى بالصمت".
وخلال التحقيق الأول، تعرّض السراج –وفق قوله– للضرب المبرّح على صدره، مما أدى إلى فقدانه الوعي. يقول: "استيقظت تحت الشمس الحارقة، لا أعلم كم مرّ من الوقت، وتركوني لساعات، ثم نقلوني إلى معسكر عسكري فيه عشرات المعتقلين، مكبّلي الأيدي ومعصوبي الأعين".
وبين سجني "عوفر" و"مجدو" تنقل علاء، وهناك رأى أسوأ ما يمكن أن تراه العين، في زنزانة أشبه بالقبر، مغبرة وخانقة. نام ليلتين في البرد القارس دون غطاء، وعندما طلب "بطانية"، ضُرب وسُكب عليه غاز الفلفل الحارق.
ويكمل: "بكيت وأنا أعاني من ألم عيني ووجهي، وكنت أبحث عن أي شيء يذكرني بالحياة، فرأيت نملة تمشي في الزنزانة، شعرت حينها أن الحياة لم تغادرني بعد".

"العصافير".. فخّ التجسس
في مرحلة لاحقة، نُقل إلى قسم يعرفه الأسرى باسم "العصافير"، حيث يُوضع المعتقلون بين عملاء يتظاهرون بأنهم أسرى، لكنهم في الحقيقة يعملون لصالح المخابرات الإسرائيلية.
يقول السراج: "كانوا يسألونني عن مقاومين وصحفيين وسياسيين، فعرفت فورًا من طبيعة أسئلتهم أنهم ليسوا أسرى حقيقيين".
وأشار إلى أنهم حاولوا انتزاع اعترافات منه بحجة انتمائه لحركة حماس، فقط لأنه التُقطت له صور مع شخصيات سياسية خلال تغطيته الصحفية.
"أخبرتهم أني صحفي مستقل أعمل مع الجميع، ولا أنتمي لأي فصيل"، يوضح السراج.
وبعد انتهاء التحقيقات –والحديث للسراج– نُقل إلى القسم (23) في سجن "عوفر"، أحد أخطر أقسام السجون الإسرائيلية، حيث يُحتجز من تصفهم سلطات الاحتلال بأنهم "نخبة المقاومة".
ويمضي بالقول: "هناك كان الجنود يقمعون الأسرى أربع مرات يوميًا باستخدام الهراوات ورش المياه الباردة رغم البرد القارس، وسط حرمان من الطعام والرعاية الطبية".
ويضيف: "بقينا أربعة أشهر على هذا الحال؛ لا دواء، لا أغطية، لا طعام كافٍ، فقط القمع، والشتائم، والضرب. كنت أشعر أني أُعاقَب لأنني أحمل كاميرا، لا سلاح".
دون محاكمة
منذ اعتقاله، لم يُعرض علاء على محكمة، ولم يُسمح له بلقاء محاميه سوى مرة واحدة، من خلف لوح زجاجي وبحضور سجان كان يتدخل بين الحين والآخر لإنهاء الحديث.
وتنقّل السراج –وفق قوله– بين سجون "عوفر"، و"نفحة"، و"النقب"، دون أن تُوجّه له تهمة واضحة أو تُفتح له جلسة محاكمة.
ورغم ذلك، ظل الأمل موجودًا. يقول علاء: "كنا نترقب الأخبار وننتظر أن نسمع عن صفقة تبادل. كل معلومة كانت تساوي الحياة، إلى أن جاء الموعد المشهود".
وفي 13 أكتوبر 2025، تم الإفراج عن السراج ضمن صفقة تبادل، بعد قرابة العامين من الاعتقال.
"أبلغونا فجأة أني سأعود إلى غزة، لكن قبلها اعتدى علينا السجانون بالضرب، حتى ونحن نغادر"، يضيف السراج.
وفي مجمع ناصر الطبي كان اللقاء الأول مع أصدقائي وأهلي وأطفالي التوأم أدهم ومحمد، اللذين كانا في عامهما الأول عند اعتقالي، واليوم بلغا الثالثة.
"وجدتهم كبروا.. وأنا لم أكن معهم، ووالدي ووالدتي ظهرت عليهما علامات التعب، فعائلتي كلها دفعت ثمن كوني صحفيًا".
ويختتم السراج شهادته بنداء للضمير العالمي: "الصحفيون ليسوا هدفًا، ولا الأسرى أيضًا، ومن بقي في السجون يعيش في الجحيم. إنهم يُقتلون كل يوم ببطء بسبب التعذيب والجوع والإهمال الطبي. أين القانون الدولي؟ أين الإنسانية؟".


