لم يبدأ ليل الأسير المحرر “أحمد”، ابن الثامنة والثلاثين من عمره، داخل السجن كما بدأ لآلاف أسرى غزة منذ حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، بل بدأ وهو مربوط إلى مقدّمة دبابة إسرائيلية لمدة 48 ساعة كاملة.
كان “أحمد” يُساق على أرضٍ رملية قرب موقع المدفعية في مستوطنة “بئيري” شمال غربي صحراء النقب، بالقرب من الحدود الشرقية مع قطاع غزة، دون ماء أو طعام، بينما كانت حياته تُستخدم درعًا بشريًا يحتمي به الجنود من نيران المواجهة.
وفي كل خطوة، كان يشعر بأن رصاصة طائشة قد تخترقه، وأنه يُعامل كأنه قطعة معدنية بلا قيمة، لا كإنسان له أسرة وطفل وعمر وذكريات.
ولم يمضِ وقت طويل على اعتقال “أحمد” حتى وصل إلى ممر يُعرف بـ“محور نتساريم”، الذي تحوّل إلى طريق للموت والفتك بحياة النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه.
كان “أحمد” يقود عائلته بحثًا عن مكان أقل خطرًا، حين دوّت صافرات الجنود التي طالبت كل شاب بالتقدم نحو الجانب الشرقي للحاجز. هناك، وُجّهت فوهة بندقية إلى رأسه، قبل أن يُجبر على خلع ملابسه بالكامل، ويُرسم على ظهره رمز “X”، فيما أُمرت عائلته بمغادرة المكان دون السماح لهم حتى بنظرة وداع، وفق ما رواه لمراسل صحيفة “فلسطين”.
وقال إن جنديًا خاطبه بلهجة قاسية: “أنت من نخبة حماس”، رغم أنه لم يحمل سلاحًا في حياته.
درع بشري
بعد 48 ساعة من استخدامه درعًا بشريًا، نُقل أحمد إلى سجن “سدي تيمان” العسكري، حيث بدأت مرحلة أشد قسوة من الاحتجاز. وخلال التحقيق، لم يُسمح له بالنوم، ولا بالشرب إلا بكميات ضئيلة، وتعرّض – كما وصف – لـ“كل أشكال التعذيب الممكنة”.
ويقول الأسير المحرر إن الجنود انتزعوا أظافر يديه وقدميه، ومزقوا لحيته بالقوة، واستخدموا “كاوي القصدير” الحار على جسده، ولا تزال آثاره محفورة في جلده حتى اليوم.
ولم يتلقَّ أحمد، وفق ما أكده، أي علاج رغم النزيف والتقرحات. وكان وزنه عند الاعتقال 95 كيلوغرامًا، وعندما خرج من السجن في الأول من فبراير/شباط 2025 لم يتجاوز 48 كيلوغرامًا.
ويضيف بتنهدة طويلة: “كانوا يريدوننا أن نذوب، أن نصبح أشباحًا. لم يكن هناك دواء، ولا ماء كافٍ، ولا طعام. كانوا يعطوننا ما يُبقينا أحياء بالكاد، وكأنهم يريدوننا أن نموت ببطء”.
مشهد الإعدام
في إحدى الليالي داخل القسم العسكري، سُمح له ولعدد من الأسرى بالتحرك لدقائق معدودة خارج الغرفة الضيقة.
وفجأة، دوّى صراخ أحد الأسرى، ودفعهم الجنود قسرًا لمشاهدة ما جرى: كان أحد الأسرى الفلسطينيين، وهو رجل سبعيني يُعرف بـ“أبو كايد”، يسقط على الأرض بلا حراك بعد تعرضه للضرب. وكان أبو كايد يعاني من بتر في ساقه، ولم يكن قادرًا على الوقوف أصلًا.
ويمضي أحمد قائلًا: “أرادوا أن نشاهد، أن نخاف، أن نفهم أن الموت أقرب إلينا من التنفس”. ولم يستطع المحرر النوم بعد تلك الليلة، وظل المشهد يطارده حتى بعد تحرره.
الكلاب البوليسية
داخل غرف السجن، لم يكن الضرب وحده أداة السجانين. ففي حوادث متكررة، كان الجنود يطلقون الكلاب البوليسية داخل الغرف لتمزيق أغراض الأسرى وعضّ بعضهم، بل وصل الأمر – كما يؤكد أحمد – إلى حالات اغتصاب نفذتها الكلاب بأوامر مباشرة من الجنود.
ويقول: “أصوات الصراخ لن تغادر رأسي أبدًا. كانوا يضحكون بينما الكلاب تعتدي على الأسرى. لم يكن هناك أي شيء يدل على أننا بشر”.
وخلال 14 شهرًا من الاعتقال، لم تُوجَّه لأحمد أي تهمة، ولم يمثل أمام محكمة، ولم يُبلَّغ بسبب توقيفه، شأنه شأن آلاف الفلسطينيين المحتجزين إداريًا دون محاكمة.
ويشرح أحمد أن هدف الاحتلال كان اعتقال أكبر عدد ممكن من الشباب الفلسطينيين للضغط على المقاومة في غزة من أجل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين والجثامين المحتجزة.
ويضيف: “لم أكن رقمًا فقط. كنا آلافًا. كل يوم يدخل شبان جدد، وكل يوم يزداد الاكتظاظ والجوع والأمراض”.
وتشير تقارير هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير إلى أن عدد الشهداء داخل السجون منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على القطاع تجاوز 100 شهيد، جرى توثيق هوية 84 منهم، بينهم 50 من أبناء غزة، لترتفع بذلك حصيلة شهداء الحركة الأسيرة منذ عام 1967 إلى 321 شهيدًا.
وتصف مؤسسات الأسرى المرحلة الحالية بأنها “الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية”، حيث تُمارس سياسات “الإعدام البطيء” عبر الحرمان من الغذاء والعلاج، والاعتداءات المتواصلة، وسط مساعٍ حكومية إسرائيلية لتشريع الإعدام بحق الأسرى.
وحتى بداية الشهر الماضي، بلغ عدد الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال أكثر من 9250، بينهم 1242 أسيرًا محكومًا، و49 أسيرة (بينهن أسيرة من غزة)، و350 طفلًا، و3368 معتقلًا إداريًا.
هذه الأرقام ليست، بالنسبة لأحمد، مجرد إحصاءات، بل وجوه وصرخات وصمت طويل عاشه معهم. ويقول وهو ينظر إلى يديه اللتين لم تلتئم جراحهما بعد: “خرجت بجسدٍ نصفه مكسور، لكن هناك من ما زالوا في الداخل، ينتظرون يومًا يشبه يومي”.

