عامان كاملان، احتاجهما كيان الإبادة المجرم، حتى يوقف أخيراً عدوانه الوحشي على غزة، بعد أن نفذ فيها من جرائم الحرب ما تشيب له الولدان، وصنع مأساة ممتدة وأبدية لعشرات آلاف الأسر الفلسطينية التي مُسحت بأكملها من سجل الحياة، أو فقدت معظم أفرادها، وباتت بلا مأوى، إضافة إلى قضاء الاحتلال على جميع مظاهر الحياة، باستهدافه الشامل لها، حتى غدا قطاع غزة مكاناً منكوباً على جميع المستويات، وهو ما أراده الاحتلال منذ البداية، أي صناعة نكبة جديدة للفلسطينيين، تظل ماثلة في وعيهم وفي ذاكرة العالم، حتى لا يفكر أحد برفع رأسه في مواجهة هذا المحتل وحتى يسلم الجميع بهيمنته المطلقة.
بطبيعة الحال، ليس سهلاً استقصاء مظاهر الوجع والفجيعة في غزة بعد توقف الحرب، أو رؤية كامل الندوب المادية والمعنوية التي خلفتها حرب الإبادة المسعورة، لاسيما وأن الكيان ومعه منظومة التآمر العالمية لا يريدون لغزة أن تستقر، ولا أن تعالج جراحها بإرادتها الحرة، ولا أن تخط ملامح اليوم التالي للحرب دون تدخل العالم المجرم كله، الذي يتواطأ ليجعل أي مساعدة لغزة على التعافي مشروطة ومكلفة، وكل ذلك حتى لا تنتقل عدوى عنفوانها وكرامتها وإبائها إلى مساحات أخرى في هذا العالم، وحتى تأمن العواصم العربية آثار الطوفان التي عبرت حدوداً وهدمت جدراناً رغماً عن إرادة الطغاة، وما زالوا يحاولون حبس امتدادات ذلك الطوفان وتحجيمه ورده إلى داخل غزة، ليُغرق أهلها في مشاكل ما بعد الحرب، وتغدو بقعة تستدر الشفقة والتعاطف الإنساني وحسب، لا منارة تصدر مبادئ الشرف والرجولة والكبرياء لكل العالم.
لكن غزة، في لحظات خروجها الأولى من تحت الرماد بعثت في الأرجاء ما يشي بأن فجرها لم يُطمس وأن شمسها لن تُحجب، فهي رغم جراحها المفتوحة تصر على جلب الفرح والعزاء لكثير من القلوب المكلومة، وعلى كسر قيود آلاف الأسرى، التزاماً بوعد قادتها الأحرار الذين قضوا في هذه المعركة، رغم أنه كان ينتظر ممن حولها أن ينهضوا بواجب النصرة والإغاثة ووقف الإبادة، لكنها توقفها اليوم بصنيع رجالها وصمود أهلها وحسب، وما كل هذا الاحتشاد العالمي للتوقيع على اتفاق وقف الحرب إلا مشهد شكلي لا يغير من حقيقة أن الذي قاتل وصمد وأفشل أهداف المحتل بالتهجير وإعادة الاحتلال واستئصال المقاومة هم فقط الأبطال المقاومون وأهل غزة الصامدون.
في بيانها عقب تسليمها أسرى الاحتلال الأحياء، تحدثت كتائب القسام بثقتها و مصداقيتها وصلابتها المعهودة، وذكرت بوعدها الذي قررته منذ اليوم الأول بأن الاحتلال لن يحصل على أسراه إلا عبر صفقة، وبينت كيف أنه رغم تفوقه العسكري والتقني لم يتمكن من تحريرهم، بل صاعد عدوانه حتى تسبب بقتل العشرات منهم، وظل يفشل إمكانات وقف الحرب مدفوعاً بغريزة الانتقام وشهوة القتل والتدمير، رغم أن حماس كانت حريصة على إبرام الصفقة وإنهاء الحرب منذ الشهور الأولى. ثم جدد القسام التزامه بحرية الأسرى، وهو الذي بذل في هذه الحرب أقصى طاقته ليفرج عن أكبر عدد منهم، رغم أنه قدم آلافاً من قادته ومقاتليه شهداء فيها وقاتل رجاله ببسالة أسطورية، وبثبات قل نظيره في الدنيا، في ظل حرب إبادة طاحنة وحصار من الجو والبحر والبر، وشح شديد في الإمكانات والعتاد، بل في شربة الماء ولقمة الطعام، وفوق ذلك كانت هناك حالة من التخاذل العامة، القاهرة والشاملة، تتعاظم خارج حدود غزة، وتضاعف من مأساتها.
إن كل تفصيلة في هذه الحرب، بأوجاعها وفجائعها، وببطولة مجاهديها وبأس أهلها، وبخذلان القريب والبعيد لها، كل هذا يحتاج أن يوثق ويدون ويدرّس لكل الأجيال، الآن وفي كل وقت، ليس فقط حتى تظل غزة قضية العالم الأولى، بل لأنها رغم جراحها كانت الوحيدة الحائزة على مرهم التعافي للموبوئين بالخوف من حولها، والوحيدة التي امتلكت مفتاح خلاصها، ومفتاح أبواب زنازين آلاف المقهورين.. فعلت غزة ذلك وهي تحت الإبادة، والدماء تجلل سائر جسدها، وعجز غيرها عما هو أدنى منه وهو في مساحات آمنة متخمة بالاستقرار وأدوات الفعل، غير إن عوامل الإرادة والإيمان والثبات كانت مودعة فيها وحسب، لذلك سيبقى دَينها على كل الأحرار كبيراً وثقيلا، ولهذا استحقت أن تكون قضية العالم الأولى، وأن يظل واجب نصرتها وإغاثتها أبديا، وهو أضعف الإيمان، وأقل ما يمكن أن يقدمه لها العالم، وقد امتلكت مفتاح خلاصه.

