تلا صَلواتِه كاملةً قبل أن يتهيَّأ لزيارةِ مصلحةِ السجون، وأكَّد في صلاته على تَرسنةِ كلِّ الأفكارِ المزروعةِ في أعماقه:
" أنتَ مَحبوبُ الرَّب، أنتَ مَندوبُ الرَّب، أنتَ يدُ الله في هذه الأرض، أنتَ النارُ والسيفُ والجحيمُ على كلِّ مَن لا يَنتمي على طريقتِك لربِّك المُتفرد لك. كلُّ مَن لم يَصنعه الله بيدَيه كما صَنعك، فهو عدوٌّ لك وللرَّب. هناك مخلوقاتٌ صَنَعها الرَّب فقط لتكونَ محلًّا لِغَضبِه وسَخَطِه. أنتَ الذي ستُنفِّذ غَضبَ الرَّب فيهم. كُن حريصًا، كُفؤًا، مُقدامًا، شجاعًا، ولا يَكمن في قلبِك أيّةُ رحمةٍ على كلِّ مَن سوَّلت له نفسُه أن يَقف في طريقِنا نحن أبناءَ الرَّب وأحبَّاءَه. سوانا هم أبناءُ الشَّياطين، خَلَقَنا الله لنُنفِّذ أمرَه ونتقرَّب إليه بإنزالِ سخطِه على أسوإ ما يُبدع عقلُنا الأشوَس."
لبس ابنُ غَفير نظارتَه ذاتَ العدسةِ التي تُشبهُ قَعرَ كوبٍ قديم، وارتدى قميصَه الأبيضَ على سرواله الأسود، ونظر في المرآةِ المركونةِ عند مخرجِ شقَّته، فَعَبَس فيها وبَسَر بعد أن قرَّر إخراجَ روحِه الشيطانيَّة بأبشعِ صورِها الممكنة. أشار لزوجتِه بإبهامِه المقلوب، فردَّت عليه بقبضةِ يدِها، ثم انطلق.
وهو يُغذّ السيرَ بسيارةٍ مَحفوفةٍ بحراساتٍ مشدَّدةٍ أمامها وخلفَها، تَنفس بعمق وهو يشعر بالامتنان لنفسه اعتدادًا وغرورًا. انتابَه شعورٌ بأنَّه يسير فوق السَّحاب، وأنَّ ريحَ سليمان هي التي تَغدو به إلى حيثُ إرادةُ الرَّب. استَعرض ما فَعل في السجون، وكيف صَبَّ على رؤوس «أعداءِ الرَّب» الفلسطينيين من عذابٍ له أوَّلٌ وليس له آخر: هؤلاء حشراتٌ وصراصيرُ وأفاعٍ. كيف تجرَّؤوا أن يُعارضوا سياساتِنا؟ كيف فكَّروا أن يُؤذوا بني إسرائيل ولو بكلمةٍ أو برؤيا رآها أحدُهم في منامه؟
تَبَسَّم وهو يُعدِّد: حَوَّلتُهم إلى هياكلَ عظميةٍ من الجوع، كَسَرتُ عظامَهم وسَحَقتُهم بعصيّ رجالي الغلاظ، منحتُهم شرفَ أن يُضرَبوا بأيدٍ إسرائيلية؛ أَبَعدَ هذا الشرف شرف؟ وعن كيلِ الإهاناتِ بكلِّ أشكالِها وأنواعِها حدِّثْ يا عبدَ الرَّب المُتفاني في عبادتِه! لَعِبَت كلابُنا على أجسادِهم، وحوَّلتُ حياتَهم من رفاهيةٍ إلى جحيمٍ مقيم.
ماذا بعدُ أيها السيِّد العظيم للرب العظيم؟
لم تَعُد هناك مساحةٌ زمانيةٌ ولا مكانيةٌ إلا وملأتها عذابًا وتنكيلاً. سِجن «سِدي تومَان» مثلًا جعلتُه نموذجًا للعذابِ الأليم: مرَّرتُ عليهم شتاءَ الصحراءِ وهم عُراةٌ مُكَبَّلون بأبراشِ الحديد، قَطَّعت القيودُ أطرافَهم، عملياتُ بترٍ دون تخدير. ويقول بعضُ الموتورين: حقوقُ إنسان! أهناك إنسانٌ من غير اليهود؟ فكيف بمن تَطاول على اليهود؟
وهناك مَن يزيدها فلسفة ويقول: حقوق للحيوانات! نعم، صحيح للحيوانات غير المؤذية، أمّا المؤذية فيَختلف الأمر؛ أيلام أحدُنا على قتل بعوضة؟
وصل سجنَ "نَفحة" الصحراوي بعد أن عبَر ببصرِه المَفتول الأراضي الشاسعة ورأى كيف أصبحت العظمةُ الإسرائيلية بتحويل هذه الأراضي إلى خضراء يانعة بعد أن جَرّوا مياهَ بحيرة طبرية من الشمال الفلسطيني إلى الجنوب، ولم يَخطُر ببالِه أنَّها سرقة وسطوٌ على المياه الفلسطينية.
في عمق هذه الصحراء وصل ابن غفير مع أفكارِه السوداء إلى سجنِ النقب. فُتحت له الأبواب، ووجد مديرَ مصلحةِ السجون في استقباله مع وفدٍ مُرافق. رافقوه في جولةٍ رأى فيها عن بُعد الهياكلَ العظميةَ المجوَّعة، والوجوهَ الشاحبة، والأجسادَ المُنهَكة، والأقسامَ المكتظّة بأعدادٍ مضاعفةٍ لسِعة تلك الأقسام الطبيعية.
اطمأنَّ على أحوال السجن القاسية، لم يُبقِ شاردةً ولا واردةً إلا وسأل عنها:
• ماذا عن الطعام والشراب؟ ماذا عن التفتيش والمداهمات واستخدام الكلاب للترويع وإثارة الهلع؟ هل يرفع أحدُهم رأسَه؟ هل هناك ما يمكن إضافتُه من تجلياتِ معاقبة هؤلاء الأشرار؟ وسِّعوا خيالكم، فهذه فرصتنا للانتقام.
• لا يخطر في بالنا عقابٌ إلا ونُنفِّذُه دون أيّ تردّد أو حساب، سيِّدي.
• يجب أن تُعمِّموا التجاربَ الناجحةَ على كلِّ السجون. تبادلُ الخبرات وتعميمُ أفضل العذابات على هؤلاء الشراذم البشريّة من أجمل المهمّات.
كان يُعجِبُه سَجعُ الكلمات وجرسُها الموسيقي، ويجد متعتَه وجَمالَ روحِه فيها، خاصّةً إذا حُمِّلَت بالإنجازات. وكان مديرُ العذابِ في سجنِ النقب يعرف ما يُطرِب ابنَ غفير، فيُسمِعُه أجملَ الألحان.
أوشكت أن تمضي الزيارة بسلام، لولا أنَّه ارْتَعَد وانتفض وهو ينظر إلى جُدران السجن، فسأل بغضبٍ شديد:
• لماذا هذه الجدران خاليةُ الوفاض؟
• هي هكذا دائمًا.
• ماذا؟! كيف تتركون هذه المساحةَ دون عذاب؟
• وماذا عسانا أن نفعلَ بها؟
صَمَت قليلًا ثم نَعَق:
• عَلِّقوا صورًا كبيرةً عليها.
فهتف ضابط:
• فكَّرتُ يومًا بتعليق صورٍ من الطبيعةِ الجميلة كي يَتحسَّروا على غيابِهم عنها في غياهب السجون.
زعق ابنُ غفير في وجهه:
• يا لك من ساذجٍ، لا تعرف من أين تُؤكَل الكتف! أحضِروا صورًا تُظهِر خرابَ غزّة وما فَعَلنا فيها، واملَؤوا هذه الجدرانَ بها، سنُعذِّبُهم بها ونزيدُ نفوسَهم رهقًا. لا تتركوا أيّةَ مساحةٍ دون عذاب. ولا تنسَوا تعميمَ هذه الفكرة العظيمة على كلِّ السجون.

