كما رفض الداعية د. وائل الزرد (52 سنة) النزوح من غزة في بداية حرب الإبادة الجماعية إلى جنوب القطاع، رفض أبناؤه وزوجتاه، النزوح أيضًا، فلم يكن التشبث بالأرض شعارًا ردده الداعية على منابر المساجد في خطبه الدينية، بل مثّل واقعًا عاشه، حتى استشهد وهو على فراشه آمنًا في بيته بعدما أمَّ الناس في صلاة فجر الجمعة الموافق 13 أكتوبر/ تشرين أول 2023، ليقصف الاحتلال البيت على الرجل الذي رفض إغلاق المسجد، أو النزوح من بيته داخل مدينة غزة نفسها، فلم يزح صلابة الرجل سوى صاروخ حربي.
وبالرغم من مرور نحو عامين على استشهاد الداعية، لم يختلف نجله الأكبر حسام (32 سنة) عن والده، فالشاب الذي يسكن بحي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، بقي داخل حيّه حتى "ساعة الصفر" لتثبيت الأهالي عبر تزويدهم بالمياه، وشحن هواتفهم، لينال النصيب الذي ناله والده بقصف بيته المكون من خمسة طوابق على زوجته التي تواجدت فيه، ولحقها هو بعد ساعتين بعد إعادة استهداف المنزل أثناء محاولته انتشال زوجته وكان يساعده شقيقه عبد الرحمن الذي استشهد أيضًا.
صبيحة، يوم 17 سبتمبر/ أيلول 2025، تقلب الخوف بقلب سماهر الزرد (47 سنة) والتي تكنى "أم حسام" على صوت اتصال هاتفي مبكر من نجلها حسام، في صوته كانت الحشرجة تسابق الكلمات: "يما قصفوا الدار علينا. زوجتي استشهدت"، وطلب منها إرسال شقيقه عبد الرحمن لمساعدته.
يختبئ الألم وراء صوت أمه، وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" قائلة: "نزحت مؤخرًا من حي التفاح إلى بيت نجلي حسام بحي الشيخ رضوان، ومع اشتداد الخطر على الحي نزحت لمنطقة الميناء، وبقي هو بالحي رافضا النزوح، وجاء معي شقيقه عبد الرحمن (20 سنة) وزوجته التي تزوجها بعد استشهاد شقيقه بلال مع طفلها وائل (سنة وثلاثة أشهر)، كان حسام يصر على البقاء حتى ساعة الصفر لتثبيت الناس بالحي، لأنه كان يشحن هواتف الجيران ويقوم بتشغيل البئر لتعبئة المياه".
وتضيف: "عندما اشتد الوضع بالحي، اتصلت عليه وطلبت منه النزوح، لكنه رفض قال لي: "لما الكل بيطلع حطلع"، ثم أخرج بعض أغراضه عندنا، ثم قام بإرسال طفليته سماهر (9 سنوات) وسارة (8 سنوات) للنوم عند بيت جدهم (من جهة الأم)، وبقي هو وزوجته وطفله وائل (4 سنوات)".
وتحكي عن تفاصيل الفاجعة بقلب مثقل بالفقد: "الساعة السابعة صباحًا، اتصل عليه جاره فخرج من البيت ولحق به طفله وائل للحديث مع الجار، ليدوي صوت قصف كبير، وبعد انقشاع الغبار رأى بيته قد أصبح ركامًا، وقد تهاوى على زوجته. بعد القصف اختبأ إلى أن هدأ الوضع، واتصل بنا، فذهب له شقيقه عبد الرحمن، ثم اتصل على حماته وأعطاها طفله وائل، وبقي هو وشقيقه يحاولان النبش بالركام محاولين انتشال زوجته، فتعرضا للقصف مرة ثانية واستشهدا معًا".
صدمة وفاجعة
لم تكن أم حسام تعلم باستشهاد نجليها عندما لحقت بنجلها عبد الرحمن لوداع كنتها، فعندما وصلت كانت الفاجعة أكبر: "وصلت وكنت تائهة، أخبرني أحد الشبان أن بيت نجلي أعيد قصفه مرة أخرى، وكانت صدمة وفاجعة كبيرة، سبقهم والدهم الشهيد، وابني بلال الذي أنجب طفلا أسماه "وائل"، واستشهد حسام وترك ثلاثة أطفال: وائل، وسماهر، وسارة، واستشهد عبد الرحمن الذي كان ينتظر مولوده الأول، رحلوا وتركوا لي أبناءهم الأيتام لأقوم بتربيتهم".
أما عن حادثة استشهاد زوجها، فيوم 13 أكتوبر/ تشرين ثاني 2023 وعندما عاد من صلاة الفجر، تفاجأت العائلة بقصف الاحتلال البيت بصاروخ حربي أول، فقام حسام بنقل أخوته وإخراجهم من البيت، "كنت أبحث عن رداء الصلاة، ثم سقطت الصاروخ الثاني والثالث، فأصبت بكسور بقدمي، وأصيب زوجي برأسه، مكث في العناية عدة أيام ثم استشهد، ودعته وأنا على السرير الطبي" تحاول أم حسام مقاومة البكاء، وهي تستذكر ذكرى رحيل شريك الروح".
ومع بداية الحرب، ورغم نزوح الكثير من الجيران، ووقوع منزلهم بحي التفاح ضمن أوامر إخلاء نشرها جيش الاحتلال، إلا أن الداعية وائل الزرد كان كالجبل يرفض الخروج من منزله. تستحضر زوجته صلابته تلك: "كان يقول لنا: "أنا بطلعش من داري" محاولا تثبيت الناس. وعندما شعرنا بالخوف من القصف، أرسلنا عند بيت شقيقه بحي النصر، وبقي مع نجله حسام، ثم عدنا للبيت وقصفنا بالبيت".
ولدى الداعية الزرد 13 ابنًا، بينهم ثمانية أولاد ذكور وخمس إناث، لديه من زوجته الأولى أم حسام، ثمانية أولاد وهم حسام (32 سنة) وبلال (21 سنة) وعبد الرحمن (20 سنة) وصائب (29 سنة) ومحمد (24 سنة) وعبد الله (12 سنة) وابنتان: لينة، ومريم، ومن زوجته الثانية، رزق براء (17 سنة) الذي استشهد بمسيرات العودة، وعبد الرحيم (19 سنة) وثلاث إناث.
حياة لله
كرس الزرد حياته لله، من علم وجهاد، وكان محاضرًا في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، ودائمًا تمتلئ مذكرته اليومية، بجدول لخطب ودروس دينية في مساجد عديدة سواء بعد صلاة الفجر أو العشاء، ربى أبنائه على حب الدين والالتزام والقرآن الكريم، يطرق صوته ذاكرتها: "كنت أقول له: "يارب نستشهد مع بعض"، فكان يقول لي: "لا أريد الشهادة قبل أن أحضر تحرير الأقصى، وهو كريم ومتسامح وكان يحرص على تجميع أخوته مرة كل شهر، ويحرص على صلة الأرحام".
ورغم قسوة الفقد، تؤمن الزرد أن للآجال أعمار مكتوبة، وتعبر عن فخرها أنهم استشهدوا خلال الحرب، وسبقهم والدهم، لتتفرغ من جديد لرعاية أحفادها الأيتام، "أبناء حسام سماهر وسارة، تعيا الفقد، خاصة أنهن فقدن أمهم ووالدهم، لكن بصورة عجيبة هناك سكينة تسكن قلوبهن، وأحاول عدم حرمانهن من شيء".
بعد استشهاد والده حمل حسام الابن الأكبر مسؤولية البيت، وكان دائمًا يطلب من أمه التفرغ للتعافي من الإصابة، وترك شؤون البيت عليه، "ولم يقصر في شيءٍ"، وكان يحب العمل الخيري ورعاية الأيتام والأرامل، كما كان يفعل والده.

عن رفض فكرة النزوح من غزة، تجيب بنبرة مليئة بالصبر والثبات: "الخروج من البيت مذلة، وخروج الجميع يعني ضياع غزة، ولا أحب أن يقول أحد بأن زوجة الداعية وائل الزرد نزحت من غزة، وأريد الثبات حتى النهاية".
بعد عام من استشهاد زوجها، وفي أكتوبر ذاته الذي حمل الذكرى الأولى لرحيل زوجها، كانت على موعد مع فتح جرح جديد باستشهاد نجلها بلال في 25 أكتوبر/ تشرين أول 2024، أثناء قيامه بتأمين المساعدات الإغاثية بعد قصف جيش الاحتلال لشاحنات التأمين عند مسجد "الخالدي" غرب مدينة غزة، ليتزوج عبد الرحمن أرملة شقيقه الشهيد، ونجلها وائل (عام وثلاثة أشهر).
وقبل رحيله عن الدنيا، تلقى عبد الرحمن عدة صدمات، فشقيقه براء استشهد على يديه خلال مسيرات العودة، وعاش في حزنٍ كبير بعد استشهاده، وكان يحضن والده لحظة قصف المنزل فأصيب والده إصابة بالغة، "كان زوجي يحب أولاده كثيرًا ويحب الإنجاب وكان زواجه الثاني "لإكثار المسلمين" كما كان يقول لي، ربما لو عايش استشهادهم لحزن حزنًا شديدًا، لكنه رحل دون أن يرى ما رأيته وما حمله قلبي من وجع وفقد".

