تحت خيام النزوح الممزقة وبين ركام المدارس المهدمة، تتبدد أحلام مئات آلاف الأطفال في قطاع غزة الذين حُرموا من مقاعد الدراسة للعام الثالث على التوالي.
لم تعد الحقيبة المدرسية ولا السبورة ولا الدروس اليومية جزءاً من حياتهم، بل استبدلتها حرب الإبادة الإسرائيلية بواقع قاسٍ يجبرهم على العمل الشاق في سن مبكرة لإعالة أسرهم، فيما يتهدد مستقبلهم خطر الضياع.
نفسي أتعلم
على رصيف شاطئ مواصي خان يونس، يجلس يوسف أبو هداف (14 عاماً) يومياً أمام بسطة صغيرة يبيع عليها المواد الغذائية، مقابل عشرة شواقل بالكاد تكفي لتغطية احتياجات أسرته المكونة من سبعة أفراد.
يوسف كان من المفترض أن يكون اليوم في الصف الثامن، لكنه توقف عن الدراسة منذ الصف السادس بعد أن أجبرته ظروف الحرب على العمل. يقول بصوت متعب يتجاوز عمره الصغير: "تعبنا كتير من الحرب.. هذه مش عيشة.. أنا مضطر أشتغل علشان أساعد أهلي.. ما في مصدر دخل ووالدي ما بشتغل.. نفسي أرجع على المدرسة بس الظروف أقوى مني".
أما أحمد منصور، فيتنقل يومياً بعربته الصغيرة بين خيام النزوح في دير البلح، حاملاً أوعية الماء والمشروبات المثلجة. يبدأ عمله منذ الثامنة صباحاً حتى الرابعة عصراً، على أمل أن يعود آخر النهار بربح لا يتجاوز 20 شيكلاً.
كان أحمد من المفترض أن يكون في الصف العاشر، لكنه اليوم يعيش حياة بعيدة كل البعد عن طفولته. يقول بمرارة: "نفسي أكون في المدرسة وأتعلم، بس الحرب أخذت منا كل حاجة.. حياتنا صعبة، شغل وخيم ومعاناة. بتمنى تخلص الحرب ونرجع لحياتنا زي ما كانت".
حياة بين الخيام
معتصم خالد، طالب الصف التاسع سابقاً، يشارك والدته في صناعة الكعك كل صباح، ليبدأ بعدها رحلة بيعها في المخيمات وعلى مفترقات الطرق. يقول محمد معتصم: "كنت كتير شاطر في المدرسة، بس اليوم صرت بياع كعك.. مش حرام؟ أنا يفترض أكون بالمدرسة، بس الحرب حولتني لبائع.. حياتنا ضاعت، نفسي أرجع على مدرستي".
الحال لا يختلف كثيراً بالنسبة للطالب أحمد العماوي (15 عاماً)، الذي كان من المفترض أن يكون في الصف العاشر، لكن الحرب حرمتْه من مدرسته وأحلامه.
يقول أحمد بأسى: "كان حلمي أن أصبح مهندساً وأبني بيتاً لعائلتي، لكن كل شيء توقف.. منذ بداية الحرب لم نتمكن من الذهاب إلى المدرسة، بعض أصدقائي استشهدوا وآخرون تشرّدوا وباتوا بلا تعليم ولا عمل".
ويضيف أحمد وهو يحاول التمسك بخيط أمل: "أراجع دروسي القديمة أحياناً حتى لا أنسى ما تعلمته، لكنني أخشى أن تمر سنوات أخرى بلا تعليم، فأصبح شاباً بلا شهادة".
جيل يضيع تحت الركام
وتجسد شهادات هؤلاء الأطفال مأساة أكثر من 660 ألف طالب ما زالوا محرومين من الدراسة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد أن دمّر الاحتلال البنية التحتية التعليمية وتحولت غالبية المدارس إلى ملاجئ للنازحين، وفق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
وفي بيان حديث، حذرت "أونروا" من أن القطاع "يخاطر بفقدان جيل كامل من الأطفال"، مؤكدة أن "الحرب في غزة هي حرب على الأطفال ويجب أن تتوقف".
ولفتت الوكالة إلى أن كثيراً من الأطفال الذين بدأوا الحرب في رياض الأطفال كان من المفترض أن يلتحقوا بالصف الثاني هذا العام، لكنهم ما زالوا عاجزين عن تعلم القراءة أو الكتابة.
وتظهر بيانات وزارة التربية والتعليم حجم الكارثة، إذ تفيد بأن أكثر من 17 ألف طالب مدرسي و1261 طالبا جامعيا استشهدوا منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى 26 أغسطس الماضي، فيما أصيب عشرات الآلاف، كما استشهد مئات المعلمين وأعضاء الهيئات التدريسية.
كما أوضحت الوزارة أن نحو 90 % من مدارس غزة تعرضت للدمار أو لأضرار جسيمة، بينما تحولت مدارس أخرى إلى ملاجئ، وهو ما جعلها غير صالحة للاستخدام التعليمي.