فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ (آل عمران، النساء، محمد)

بعد سنتين من المحرقة تعلو غزة اليوم شامخة، تتحدى السماء الملبدة بالرماد، والأرض المرتجفة من دوي القصف. آلاف الشهداء ارتقوا، ونازحون بلا مأوى، ومجوعون يقتلهم الحصار. كل زاوية صارت شاهدة على صرخة الألم، وكل شارع أصبح شاهدًا على إرادة لا تُكسر.

الدبابات والروبوتات والمروحيات تتحرك كظلّ موت يلاحق المدنيين، والمشافي تختنق بنقص الأكسجين، والمصابون تحت الأنقاض ينتظرون نجدة عاجزة. ومع كل دمعة، ومع كل صرخة، يثبت أهل غزة أن الإيمان أقوى من الرصاص، وأن الإرادة الحرة لا تُكسر. الدم قد يُراق، لكن الإرادة تبقى حية، والصمود أبلغ من كل اتفاقات وهمية، من سراب "حل الدولتين" الذي داسه المحتل تحت ركام المدينة.

في قلب غزة، تتجلى آيات "ولا تهنوا" في آل عمران والنساء ومحمد حيث الألم يلف الأرض والسماء، يسطع الوعد الإلهي: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ (آل عمران: 139). كل محنة تصيب المؤمنين تصيب الظالمين بمثلها، وكل صبر يُثبّت قلوب الشهداء ويجعلهم أحياء عند ربهم. ويتكرر الخطاب: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ (النساء: 104)، و﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ﴾ (محمد: 35).

هنا تتحوّل الآلام إلى قوة، والدم المراق إلى رسالة. الحق يعلو على الطغيان، والنصر الإلهي قادم لا محالة. الآيات تُعلّمنا أن الألم لا يصيب أصحاب الحق وحسب، بل يفضح ضعف الظالمين المحتلين: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ (آل عمران: 140) "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون" النساء 104، "وأنتم الأعلون والله معكم ولن يُتركم أعمالكم" محمد 35. كل ألم يتعرض له المؤمنون يرد على المعتدين بمثله، ونقاط ضعف الظالمين وتهاويهم العميق ستتكشف مهما حاولوا إخفاءها. الصابرون بثباتهم وإيمانهم يبعثون رسالة واضحة للعالم: الألم يتجرعه أيضاً الظلمة.

آيات "ولا تهنوا" تُذكّرنا بحكمة التاريخ وحتمية هلاك الظالمين: ﴿قد خلت من قبلكم سنن﴾، و﴿أهلكناهم فلا ناصر لهم﴾. الظالم مهما عظم، سيهلك كما هلك فرعون الأول: ﴿اليوم ننجيك ببدنك لتكون لك من خلفك آية﴾. كل ظلم وكل دم يُراق على أرض الحق لن يمر دون حساب، والله يثبت الصابرين ويهلك الظالمين. غزة اليوم ليست مجرد أرض، بل آية حية، مشهد من مشاهد قدرة الله على نصرة المستضعفين وهلاك الظالمين. ما يجري اليوم في غزة ليس عدوانًا عابرًا، بل آية من آيات الله في استدراج الظالمين: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَامْلِ لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ (يونس: 21). المؤمنون ثابتون، قلوبهم مطمئنة، والظالم مهما عظم، نهايته محتومة.

الآيات تُعلّمنا الثبات والتأمل في آيات الله، فهي تذكر المؤمنين بأن القلب يستمد القوة من فهم الحقائق الإلهية: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ (الحج: 35). كل محنة تثبت القلب وتروي الإيمان، وتجعل المؤمن صامدًا أمام صعوبات الحياة. والتدبر في كتاب الله يقود إلى وضوح الطريق: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24)، فالقلب المفتوح على كلام الله يستمد من آياته قوة لا تُقهر، ويُبصر الحقائق التي يستخف بها الظالمون.

اليوم، ونحن نراقب ثبات أهل غزة، نجد في هذه الآيات مرشدًا لكل مؤمن: الثبات الحقيقي ينبع من اليقين بالله وفهم حكمة القدر، وأن الله مع الصابرين على الحق، يعينهم ويثبت قلوبهم. "لا تهنوا، ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"، فإن النصر قريب بإذن الله، والحق سيعلو مهما طال الظلم والطغيان.

آيات "ولا تهنوا" تشترك في إبراز مصير ومكانة الشهداء في غزة أحياء عند ربهم: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾ (آل عمران: 140)، و﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ (آل عمران: 169)، و﴿فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم﴾ (محمد)، و﴿أُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ (النساء: 74). كل جهاد وصبر محفوظ، ورسالة لكل صابر: التضحية في سبيل الحق لا تُنسى، والنصر الحقيقي والخلود الأبدي حليف من ثبت على الحق.

المستضعفون أيضًا لهم وعد الله كعامل مشترك في آيات "ولا تهنوا": ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ (القصص: 5)، و﴿لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾ (الأنعام: 33). مهما طال الاستيئاس، ﴿فَإِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا وَنُنجِي مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يونس: 103). هذه الآيات تمنح الأمل لكل مستضعف: الله معكم، والتمكين والنصر حليفكم، والحق سيعلو رغم كل طغيان.

غزة اليوم ليست مجرد مدينة، بل ملحمة عزة لا هوان، وصبر لا قنوط، وإيمان وتسليم لله تعالى. درس لكل العالم: الدم قد يُراق، والليل قد يطول، لكن الإرادة الحرة لن تهزم أبدًا، والنصر آتٍ قريبًا بإذن الله.

المصدر / فلسطين أون لاين