فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ … إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ*} {النحل:69}

محرقة المنظومة الصحية

يا غزة… يا قلب المقاومة النابض، يا مدينة الصمود، يا ملحمة الإنسانية في زمن الانحطاط والوحشية، اليوم تُكتب صفحات جديدة من التاريخ، صفحات تُروى بالدم والدموع والوفاء.

من كُوَّة كهفنا الغربي الجنوبي، نرى مشفى الشفاء، القلب الذي لطالما احتضن الجرحى والأطفال، محاصرًا بين أنياب الموت. الدبابات تدور حوله في حلقات الحصار الثالثة، وقادة الإبادة يطلون على العالم بأكاذيب عن “قيادة المقاومة”، بينما الحقيقة على الأرض أشد فظاعة: مجازر متلاحقة، إعدامات ميدانية، دوس على الجثث، ومقابر جماعية تحفرها المجنزرات في باحات الحياة.

المحرقة بدأت بإسقاط المشافي؛ واليوم نعرض الشفاء، كنموذج لعشرات المشافي التي أُبادت، يطاردون السراب بحثًا عن دليل كاذب، كما قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، وسيظل وعد الله قائمًا: {وَيَمْحَقُ الظَّالِمِينَ}.

ليلة السادس عشر من أكتوبر، صاروخٌ من طائرة F-16 حوّل ساحة مشفى المعمداني إلى محرقة حية (كنموذج لعشرات المجازر والمقابر الجماعية في عديد المشافي). استشهد 472 إنسانًا، وتفرّق مئات الجرحى، أطفال كانوا يلعبون ويمسحون غبار الحرب عن وجوههم الصغيرة، فإذا بأشلائهم تزين جدران الألم. رسالة واضحة لكل مشفى: لا مأوى آمن حتى للمرضى.

منذ البداية كان الهدف إسقاط المنظومة الصحية: 320 ملائكة الرداء الأبيض قُتلوا، 83 مؤسسة صحية خرجت عن الخدمة، و121 سيارة إسعاف دُمّرت. شمال غزة خالية من أي نقطة طبية، وفي الجنوب الحصار يطبق، والجرحى يلفظون أنفاسهم على بوابات مغلقة. المواليد الخُدّج لم يسلموا؛ عشرات ماتوا في مشفى النصر بعد انقطاع الأكسجين والكهرباء.

حتى الأبطال من الكوادر الطبية لم ينجوا من بطش الاحتلال؛ 214 طبيبًا وممرضًا وفنيًا اعتُقلوا، وما بين زنازين مظلمة وتعذيب وحشي، سقط 47 منهم شهداء. هؤلاء لم يموتوا في المستشفيات فقط، بل حملوا على أكتافهم أمانة الإنسانية، شاهداً على أن العدو امتد إلى سجن القلوب والضمائر.

أكثر من 23 مستشفى خُنقت تحت القصف وأُغلقت كليًا أو جزئيًا، ولم يبقَ إلا 15 مستشفى تتنفس بصعوبة تحت سقوف مثقوبة بالخوف والجوع وانقطاع الوقود. بين الممرات التي كانت تعجّ بالأمل، يواجه ما يزيد عن 300 ألف مريض مزمن قدرهم العاري؛ مات منهم 6,758 مريضًا بسبب عدم وصول الأدوية، وانقطعت أدوية السرطان بنسبة 64%، وتلاشت نصف أدوية الأمراض المزمنة، وغابت 47% من تطعيمات الأطفال عن أجساد صغار يتعلمون الألم قبل أن ينطقوا الحياة.

وغزة… رغم الركام والقصف، لم تمت الإنسانية فيها. كوادرها الصحية ساروا على الأقدام حاملين الجرحى عبر عشرات الكيلومترات، ورجال الإسعاف والدفاع المدني واصلوا إنقاذ الأرواح بأيديهم العارية بعد تدمير أكثر من 40 من مقراتهم ومعداتهم. أعادوا تشغيل أقسام في الشفاء وعديد المشافي رغم الاجتياح، وانتشلوا الجرحى بينما تُرك الشهداء تحت الركام، شاهداً على أن الإنسانية لم تُقتل بعد.

حتى الأسرى والجرحى من جنود الاحتلال حظوا برعاية صحية إنسانية، أحرجت جلاديهم وفضحت أكاذيب حضارتهم الزائفة. غزة الأخلاق، غزة الصمود، غزة التي ترفع رأس الإنسانية وهي تنزف، تصرخ بآيات الله.

هذه ليست حربًا على غزة فقط؛ إنها امتحان للقيم الإنسانية، معركة بين ضمير يئنّ وشر يستبيح كل شيء. في الشفاء اليوم، يتقابل وجهان: وجه البشرية المتعب، ووجه الوحش الذي ظن أنه قادر على سحق الروح. لكن روح غزة باقية، تتنفس في كل طفل خرج من الركام وهو يرفع سبابته إلى السماء، شاهداً على أن الحق لا يموت مهما تعاظمت الإبادة لمشافي غزة.

المصدر / فلسطين أون لاين