يشهد قطاع غزة، في ظل استمرار الحرب والحصار الإسرائيلي الذي أعيد تشديده بعد انهيار وقف إطلاق النار في مارس/ آذار 2025، أزمة نقدية خانقة تتمثل في نقص العملات المعدنية الصغيرة المعروفة بـ"الفكة" (شيكل واحد، شيكلان، وخمسة شواقل إسرائيلية).
هذه الأزمة، التي تفاقمت منذ أغسطس/ آب 2025، عطّلت التجارة اليومية وعمّقت الانهيار الاقتصادي، حيث يعاني أكثر من 2.3 مليون نسمة من شح السيولة النقدية، إلى جانب مخاطر المجاعة التي أكّدتها تقارير الأمم المتحدة في يوليو/ تموز 2025، مع وصول 470 ألف شخص إلى مرحلة الجوع الكارثي (IPC Phase 5).
ويعكس هذا الواقع حربًا اقتصادية ممنهجة، إذ منعت إسرائيل إدخال النقود الجديدة منذ مارس/ آذار 2025، ما أدى إلى تدهور 70% من البنية التحتية الاقتصادية.
الأسباب الاقتصادية
ترجع أزمة الفكة إلى سحب كميات كبيرة من السيولة النقدية خلال الحرب، مع غياب أي ضخ نقدي جديد بسبب الحصار. وزاد إلغاء فئة العشرة شواقل مع بداية التصعيد الضغط على الفئات الصغيرة، فيما أثار رفض تداول فئة الـ20 شيكلًا المهترئة شكوكًا بين التجار والمواطنين، الذين يفضلون الفكة لتفادي الخسائر.
كما ساهم إغلاق أجهزة الصراف الآلي ورفض إسرائيل إدخال الأموال الجديدة في جعل الفكة "عملة نادرة" في الأسواق. ووفق تقرير صدر في أغسطس/ آب 2025، باتت هذه الأزمة جزءًا من سياسة الاحتلال للتحكم في سوق النقد، بما يقيّد دفع الرواتب والمساعدات.
آراء البائعين
قال تاجر البهارات خالد النباهين: "يأتون بورقة من فئة 50 أو 20 شيكلًا لشراء سلعة بخمسة شواقل، لكن بدون فكة أرفض البيع، وهذا يدمّر تجارتي".
وأضاف تاجر الخضار ماهر الشوبكي: "الفكة نادرة، والزبائن يتركون السلع إذا لم نُعطِ الباقي، خاصة مع ارتفاع الأسعار بنسبة تجاوزت 200% منذ مارس/ آذار".
التأثيرات على الاقتصاد
تسببت الأزمة في تعطيل نحو 40% من العمليات التجارية الصغيرة، إذ يرفض التجار فئة الـ20 شيكلًا التالفة التي تشكل 7% من النقود المتداولة، وهي الأكثر تلفًا بفعل الاستخدام المتكرر. وبذلك أصبحت نسبة 7% من السيولة غير صالحة للتداول، ما أعاق شراء الغذاء والدواء وزاد من مخاطر المجاعة التي أكّدتها منظمة الصحة العالمية في أغسطس/ آب 2025، مع إصابة 10 آلاف طفل بسوء التغذية الحاد.
كما ارتفعت عمولة سحب الكاش إلى 52%، حيث يحصل المواطن على 480 شيكلًا فقط مقابل كل 1000 شيكل، ما فاقم معدلات الفقر، في وقت يعاني فيه 100% من السكان من "أمن غذائي حاد".
تقول آلاء ميمة من مدينة غزة: "أحمل معي ورقة 20 شيكلًا، لكن البائعين يرفضونها بدون فكة، فأضطر للشراء الكامل أو التنازل عن بعض احتياجاتي".
وأضافت لصحيفة "فلسطين": "الفكة ضرورية للخبز وشحن الهواتف، لكن نقصها يجبرنا على المقايضة، وهذا يستنزفنا في ظل الجوع".
دور الحصار في تفاقم الأزمة
بدأت الحرب الاقتصادية مع إعادة التصعيد في مارس/ آذار 2025، بعد انهيار وقف إطلاق النار الذي سمح بإدخال مساعدات محدودة في يناير/ كانون الثاني. وقد أوقف الحصار إدخال النقود وسحب السيولة عبر التنسيقات، في إطار سياسة ممنهجة لتجريد غزة من النقد وزيادة حالة التذمر الاجتماعي.
وأفادت الأمم المتحدة في يوليو/ تموز 2025 بأن 86% من أراضي غزة صُنفت كمناطق عسكرية مغلقة، ما يعيق وصول وتوزيع المساعدات.
الحلول البديلة
اضطر السكان إلى الشراء بالقيمة الكاملة أو اللجوء إلى المقايضة (مثل تبادل الأرز بالسكر)، في مشهد يعيد إلى الأذهان "عصر المقايضة".
وساهم الدفع الإلكتروني، الذي روجت له سلطة النقد الفلسطينية، في تخفيف الضغط بنسبة 20% منذ أغسطس/ آب، لكنه يواجه تحديات كبرى مثل النصب وانقطاع الإنترنت والكهرباء، فضلًا عن ضعف الثقافة المالية.
مسؤولية سلطة النقد
تقع على سلطة النقد الفلسطينية مسؤولية تنظيم حركة التداول، بما في ذلك الضغط على الاحتلال لتفعيل بروتوكول باريس الاقتصادي وإدخال السيولة.
ويطالب خبراء بضرورة إصدار بيانات تطمئن بصلاحية العملات، وإلزام القطاعات باستخدام الدفع الإلكتروني، إلى جانب إلغاء القيود على السيولة، وتوحيد الأسعار بين الدفع النقدي والإلكتروني، ومكافحة التهريب، مع تعاون دولي لإنجاز الإعمار الذي يقدَّر بـ3–5 سنوات.
قراءة اقتصادية
وصف المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر أزمة الفكة في غزة بأنها "حصار مالي ممنهج يتزامن مع الحرب العسكرية، مما يعيق الحياة اليومية ويفاقم الضغوط على المواطنين والتجار".
وأوضح لـ"فلسطين" أن "الأزمة تعود أساسًا إلى قلة السيولة النقدية في الأسواق نتيجة سحب كميات كبيرة منها على مدار عامين من الحرب، وعدم إدخال أي سيولة إضافية. يضاف إلى ذلك مشكلات في العملة الورقية، خاصة فئة 20 شيكلًا التي يرفض التجار تداولها لتلفها، مما زاد من الضغط على الفكة. كما أن إلغاء فئة العشرة شواقل مع بداية الحرب ضاعف الأزمة".
وأضاف: "الحاجيات اليومية مثل شحن الهواتف، شراء بطاقات الإنترنت، المياه والمواصلات تعتمد على الفكة، لكن المعروض النقدي منها ضئيل جدًا مقارنة بحاجة السوق".
وشدّد على أن "الحرب والحصار هما السبب الرئيسي، إذ أوقفا إدخال السيولة وأخرجا كميات كبيرة منها عبر التنسيقات، ما أدى إلى حرب اقتصادية متزامنة مع العسكرية".
أما عن الحلول، فأشار أبو قمر إلى أن "تجاوز الأزمة يتطلب بنية تحتية قوية للدفع الإلكتروني وثقافة مالية أكثر وعيًا، لكن ذلك غير متاح للجميع حاليًا. كما أن بعض القطاعات، مثل الوقود، ترفض الدفع الإلكتروني بسبب انتشار التهريب، مما يفرض الاعتماد على النقد".
وختم بالقول: "أزمة الفكة ليست مجرد نقص نقدي، بل ركيزة في الحرب الاقتصادية التي تهدد بانهيار غزة نهائيًا، والحل يتطلب تدخلًا دوليًا عاجلًا لإدخال السيولة وتعزيز الدفع الإلكتروني قبل أن يصل الاقتصاد إلى حافة الانهيار الكامل".