"مش حنموت أكتر من موتة.. احنا ضايلين هنا". في خيمة مهترئة استعارها من أحد أقربائه، يتوسط شعيب الدريملي زوجته وأطفاله وأحفاده وسط مدينة غزة، مؤكدا تمسكه بالبقاء، في حين كانت تتساقط منشورات إسرائيلية ترمي إلى تشريد الأهالي قسرا إلى شريط ساحلي ضيق جنوب القطاع.
ويحاول الاحتلال عبر منشوراته الترويج لمنطقة المواصي كمنطقة "آمنة وإنسانية" مزعومة، لكن الدريملي الذي نزح قسرا في السابق إلى جنوب القطاع وتعرض هناك لخطر الموت مرارا إلى جانب انعدام مقومات العيش، يقول لصحيفة "فلسطين": إن هذه مجرد خديعة إسرائيلية للفتك بالأهالي وسلب أرضهم.
ومنذ بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتخذ الاحتلال من تشريد الغزيين سلاح حرب، ويروج مسؤولوه علنا لمخطط التهجير القسري إلى خارج القطاع. وتصطدم تلك الأهداف الإسرائيلية بالرفض الشعبي الواسع للاستجابة لأوامر إخلاء مدينة غزة.
وأسفرت حرب الإبادة الجارية عن استشهاد وإصابة أكثر من 226 ألف غزي معظمهم أطفال ونساء، وفق وزارة الصحة. ويواجه قرابة 1.9 مليون غزي، أي ما يعادل 90% من إجمالي الأهالي، أوضاعا إنسانية كارثية بعد أن أجبرهم الاحتلال على النزوح مع استمرار العدوان، بحسب معطيات أممية.
"الأعمار والأرزاق بيد الله"
في ظل انعدام مقومات العيش، وتدمير بيته جزئيا في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، يخاطر الدريملي بحياته لجلب بعض الحاجيات من المنزل، ليتمكن بالكاد من مجاراة متطلبات الحياة، لكنه يرفض تماما النزوح إلى جنوب القطاع.
ومنذ أسابيع، يكثف الاحتلال عدوانه على حي الزيتون، وينفذ جرائم نسف لما تبقى من المنازل، لكن لا يزال الدريملي متشبثا بحقه في العودة إلى منطقة سكنه، وإعادة إعماره. يقول: "إن شاء الله تتغير الأحوال وأعود لبيتي. ليس لدي مأوى سواه".
ووجد الرجل الخمسيني بالخيمة التي استعارها، لعدم تمكنه من شراء خيمة خاصة به، ملاذا مؤقتا لأسرته، في شارع عمر المختار وسط المدينة.
تجتمع في نبرته الحسرة على ما آل إليه حاله والثبات على موقفه، قائلا: في المرة الأولى، نزحنا قسرا إلى جنوب القطاع وذقنا مرارة التشرد، وتعرضنا لمخاطر محدقة ورصاص الاحتلال كان يتطاير صوبنا من كل جانب، لدرجة أنني كنت أصف نفسي يوميا بالشهيد.

ويفند الدريملي مزاعم الاحتلال بأن المواصي منطقة "آمنة"، موضحا أن بعض الأهالي الذين نزحوا إلى جنوب القطاع استشهدوا هناك. ويضيف: "الأعمار والأرزاق بيد الله".
ويحذر من أهداف يسعى الاحتلال إلى تحقيقها عبر تشريد أهالي مدينة غزة، قائلا: إذا تركنا أرضنا سيستولي عليها المحتل، لذلك نحن باقون هنا، وكل إنسان سيموت مرة واحدة عندما يحين أجله سواء كان في شمال أو جنوب القطاع.
وحتى من يجبر على النزوح إلى منطقة المواصي سيظل شبح سؤال "وين بدنا نروح؟" ملازما له، في ظل الاكتظاظ البشري الهائل هناك، والحديث الدريملي.
واستنزفت حرب الإبادة الجماعية، الدريملي وجميع الأهالي في غزة ماليا. وعن ذلك يقول: "أنا معيش اشي (مال). معي بس الله".
وعلى امتداد نزوحه القسري سابقا في جنوب القطاع، كان الدريملي يئن أيضا مع أسرته تحت وطأة التجويع والتعطيش الذي يمتد من شمال القطاع إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
وخلال حرب الإبادة الجماعية، استشهد اثنان من أبنائه، أحدهما بلغ 30 عاما، والآخر 17 عاما. ويعيل الدريملي الآن ثلاثة أبناء أطفال، وثلاثة أحفاد بعد استشهاد أبيهم.
واستشهد أحد أبناء الدريملي في مركز لإيواء النازحين، والآخر أثناء سعيه لتأمين حفنة من الدقيق تسد رمق عيش أسرته.
"وين أولادنا ماتوا بدنا نندفن"
في إحدى زوايا الخيمة، تبرق عينا عبير الدريملي بينما تنصت لزوجها، وتستحضر محطات قاسية من النزوح والفقد. ورغم انعدام مقومات العيش حاليا، ومجاهدتها لتوفير بعض الأساسيات، فإن الاحتلال يهددها بالنزوح القسري مجددا.
لكن عبير تتفق مع زوجها في وصف منشورات الاحتلال وأوامر الإخلاء بأنها "خديعة"، قائلة لصحيفة "فلسطين": "الاحتلال يريد تهجيرنا من أرضنا. احنا وين أولادنا ماتوا بدنا نندفن"، مشيرة إلى استشهاد اثنين من أبنائها.
وتضيف: "مش مستعدة أروح أتبهدل في الجنوب، وملناش خيمة ولا أكل ولا شرب ولا منظفات وكل أسس الحياة معدومة".
ومنذ بدء حرب الإبادة، دمر الاحتلال البنى التحتية على امتداد أرجاء القطاع بشكل شبه كامل، وطال القصف الممنهج المستشفيات ومرافق الإغاثة الإنسانية والمنازل. ولم يكتف الاحتلال بذلك، ليستهدف باستمرار خيام النازحين.
وبحسرة تجتاج صوتها، تلوم عبير دول العالم، قائلة إنهم لا يشعرون بمعاناة الغزيين، بل يساندون (إسرائيل)، متسائلة: ما ذنب هؤلاء الأطفال الذين حول الاحتلال الكثير منهم إلى أشلاء؟
وتأتي أوامر الإخلاء القسري الإسرائيلية وسط إعلان أممي بوجود المجاعة فعليا في غزة بسبب منع الاحتلال إدخال المساعدات الإنسانية للأهالي، منذ الثاني من مارس/آذار، ومنع مؤسسات الأمم المتحدة لاسيما وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونروا من ممارسة عملها.
وتحذر أوساط دولية باستمرار من مغبة مضي (إسرائيل) بعملية احتلال مدينة غزة وسط أوضاع إنسانية مزرية، وانتشار لفيروسات وأمراض تنفسية وجلدية بين النازحين.
وفي تصريحات سابقة لصحيفة "فلسطين"، حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، من أن أي أوامر إخلاء إضافية لأهالي غزة تهدد بتفاقم "الوضع المروع على الأرض"، مشددة على وجوب التوصل إلى اتفاق فوري ومستدام لإطلاق النار.
وقال المتحدث باسم "الصليب الأحمر" هشام مهنا، تعقيبا على التهديد الإسرائيلي باحتلال مدينة غزة: "المدنيون في قطاع غزة يعيشون على مدار 23 شهرا ظروفا مأساوية وتجاوزت حد الكارثة، وإصدار أوامر إخلاء إضافية أيا كانت ستتسبب في نزوح أكثر وتكثيف أكثر في الأعمال العدائية".
وذكر أن أي أوامر إخلاء جديدة "تهدد بتفاقم الوضع المروع بالفعل على الأرض وستنفجر الأمور في غزة بالحد الذي نخشى أن يكون ليس هناك لنا قدرة على الاستمرار في تأدية الاستجابة الإنسانية التي ينتظرها منا المدنيون مع شمول أكثر من 80% من غزة بأوامر إخلاء".
وأوضح أنه "من غير المعقول أن يتم ضغط المدنيين وحشرهم في رقعة أصغر من الأرض بدون أدنى حد للوصول للمقومات الأساسية للعيش".
وأشار إلى أنه علاوة على ذلك، سيكون الإخلاء على نطاق واسع "صعبا وغير آمن نظرا للظروف السائدة على الأرض كما أن نقص الوصول إلى الخدمات الأساسية أمر مروع للغاية".
"مهما كان مش طالعين..."، تبقى هذه العبارة رغم المخاطر بوصلة توجه الدريملي وزوجته ويجسدان عبرها إرادة البقاء التي يتشبث بها الأهالي، فالموت عندهما واحد، أما الحياة فلا تكون إلا في غزة.

