كشفت صحيفة هآرتس العبرية تفاصيل مثيرة عن النقاشات التي دارت داخل المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، والذي عُقد الليلة الماضية، حيث قدّم كبار مسؤولي المؤسسة الأمنية تقييماً متشائماً لإمكانية تحقيق حسم عسكري في غزة، وحذّروا من أن احتلال المدينة لن يُسقط حركة حماس، بل سيُدخل إسرائيل في مستنقع دموي طويل الأمد.
وأوصى المسؤولون الأمنيون بعقد صفقة جزئية مع الحركة تفضي إلى استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع، معتبرين أن هذا المسار أقل كلفة من مغامرة عسكرية مفتوحة.
وبحسب الصحيفة، فقد انشغل الاجتماع على نحو غير معتاد بالقضايا الاستراتيجية الكبرى بدلاً من التفاصيل التكتيكية، حيث شدّد قادة الأجهزة الأمنية على أن العملية العسكرية التي يدفع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نحوها قد تستمر عاماً كاملاً، وقد تفرض على إسرائيل إدارة حكم عسكري مباشر في غزة، وهو خيار غير واقعي بالنظر إلى افتقار الجيش والدوائر الحكومية إلى أي استعداد لوجستي أو سياسي لتحمّل أعبائه.
وأشار رئيس الأركان إيال زامير إلى أن العملية قد تفضي إلى نزوح مئات آلاف الفلسطينيين جنوباً، في ظل غياب خطط لاستيعابهم أو التعامل مع تبعات إنسانية هائلة.
ولفتت هآرتس إلى أن اللافت في النقاش كان مشاركة وزراء من حزب الليكود نفسه في التعبير عن شكوكهم حيال جدوى الحملة، من بينهم جدعون ساعر وجيلا جمليئيل ودافيد أمسالم وياريف ليفين، حيث طرحوا تساؤلات صعبة حول أهداف الحرب وإمكان تحقيقها.
أمسالم ذهب إلى حد التحذير من أن غزة قد تتحول إلى "فيتنام إسرائيل"، فيما انتقدت وزيرة الاستيطان أوريت ستروك رئيس الأركان زامير بشكل شخصي، ملوّحة بضرورة استقالته إذا لم يكن قادراً على المضي قدماً بخط الحكومة. وقد رد زامير بحدة، قائلاً إنه ليس من النوع الذي يطيع بشكل أعمى من دون تقييم مهني.
في المقابل، واصل نتنياهو التشديد على أن الدعم الأميركي، خصوصاً من الرئيس دونالد ترامب، مشروط بسرعة التحرك نحو تنفيذ العملية، معتبراً أن أي قبول بصفقة جزئية سيُظهر إسرائيل بمظهر الخاضع لإملاءات حماس التي "نجحت بخطف الإسرائيليين في إجبار الدولة على الركوع".
ورأى أن هذه اللحظة تمثل "اختباراً تاريخياً" لقوة الردع الإسرائيلية، متبنياً خطاب وزراء اليمين المتطرف مثل إيتمار بن غفير، الذي دعا إلى تصويت ضد الصفقة، لكن نتنياهو تهرّب من ذلك خوفاً من خسارة الأغلبية.
المحلل العسكري عاموس هارئيل أوضح أن المؤسسة الأمنية متفقة على أن العملية لن تؤدي إلى انهيار حماس بالسرعة التي يصوّرها نتنياهو، ولن تجبرها على قبول شروط صفقة شاملة، بل قد تزيد من عزيمتها.
وأضاف أن إصرار نتنياهو على تجاهل التوصيات المهنية يرتبط مباشرة بحساباته السياسية، إذ يخشى أن يؤدي أي اتفاق إلى إنهاء الحرب سريعاً، وهو ما سيعيد إلى الواجهة النقاش حول مسؤوليته عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويُعزز المطالبات بإقامة لجنة تحقيق رسمية في سلوكه وإدارته للأزمة، خصوصاً في ظل اقتراب الانتخابات الإسرائيلية.
ويحذّر مراقبون من أن المضي في العملية سيعمّق عزلة "إسرائيل" الدولية، في وقت تتبلور فيه مبادرات أوروبية ودولية للاعتراف بدولة فلسطينية، كما قد يؤدي إلى تصعيد واسع في الضفة الغربية، ما يزيد من الضغط على الجيش الذي يواجه استنزافاً متواصلاً.
وبينما أبدى الوزراء قلقهم من تدهور مكانة "إسرائيل" عالمياً، كان نتنياهو يركز على إثبات صلابته أمام حلفائه في اليمين الميسياني، متجاهلاً الأصوات التي ترى في العملية المقبلة مغامرة غير محسوبة النتائج، قد تنقل إسرائيل من أزمة إلى كارثة.
والأحد، نقلت القناة 12 العبرية عن مصادر عبرية مطلعة لم تسمها، إن "وراء إصرار نتنياهو على احتلال مدينة غزة يقف ضغط كبير من الرئيس ترامب للعمل على هزيمة حماس".
وأردفت: "تعتقد المؤسسة الأمنية أيضا أن احتمال موافقة حماس على شروط صفقة شاملة وفقا لرؤية الكابينت منخفض جدا".
وفي 10 أغسطس/آب الجاري، أعلن نتنياهو 5 شروط للتوصل إلى صفقة شاملة تتضمن: نزع سلاح حماس، وتجريد غزة من السلاح، وإعادة الأسرى، إضافة إلى فرض سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع، وإقامة إدارة مدنية فيه لا تشمل الحركة ولا السلطة الفلسطينية.
والجمعة، أعلنت تل أبيب مدينة غزة التي يسكنها نحو مليون فلسطيني "منطقة قتال خطيرة"، وبدأت غارات وعمليات نسف واسعة أسفرت عن مقتل وإصابة العديد من الفلسطينيين ودمار هائل في المدينة المنكوبة تحت وطأة إبادة مضاعفة.
وفي 18 أغسطس الماضي وافقت حماس على مقترح للوسطاء بشأن صفقة جزئية، لكن إسرائيل لم تعلن حتى الآن موقفها منه، رغم تطابق بنوده بشكل شبه تام مع ما سبق أن وافقت عليه.
ومرارا، أعلنت حماس استعدادها لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين "دفعة واحدة"، مقابل إنهاء حرب الإبادة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، والإفراج عن أسرى فلسطينيين.
وتؤكد المعارضة وعائلات الأسرى أن نتنياهو يرغب في صفقات جزئية تتيح مواصلة الحرب بما يضمن بقاءه بالسلطة، إذ يخشى انهيار حكومته إذا انسحب منها الجناح الأكثر تطرفا والرافض لإنهاء الحرب.
ووجهت العديد من الدول الغربية والمؤسسات الدولية والأممية انتقادات حادة وأعربت عن مخاوف من تبعات قرار "تل أبيب" احتلال مدينة غزة، ودعت للتراجع عنه ووقف الحرب.
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلّفت الإبادة 63 ألفا و371 شهيدًا، و159 ألفا و835 مصابا من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وأكثر من 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 332 شخصا بينهم 124طفلا.

