تعيش الساحة السياسية الإسرائيلية تفاعلات استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية، وتبعاتها المتوقعة على إمكانية اندلاع حرب لبنان الثالثة بعد انكشاف الغطاء السياسي عن حزب الله بهذه الاستقالة، في ظل ردود الفعل المتسارعة الصادرة عن قادة "إسرائيل" بشأن التطورات اللبنانية.
السطور التالية تحاول قراءة الموقف الإسرائيلي سياسيا وعسكريا، وهل ستذهب (إسرائيل) إلى حرب جديدة ضد الحزب مدفوعة بضغط سعودي لتقليم أهم أظافر إيران في المنطقة وبموافقة أميركية؟ وهل يمكن اليوم تفسير تهدئة الجبهة الجنوبية في غزة مع حماس للتفرغ لإشعال الجبهة الشمالية في لبنان مع حزب الله؟
لم يكن عفوياً أن تتصدر التطورات اللبنانية في الأيام الأخيرة نشرات الأخبار والعناوين الرئيسة للصحافة الإسرائيلية، بل وتطغى على تفاعلات الأزمات الإسرائيلية الداخلية، على اعتبار أن ما يحصل في الجارة الشمالية يلقي بظلاله الصعبة على (إسرائيل)، مما يمنحها أهمية وتغطية تفوق كثيرا الشؤون الإسرائيلية الداخلية.
لم تكن استقالة الحريري الخبرَ اللبناني الوحيد الذي داهم السياسة الإسرائيلية، فـ(إسرائيل) باتت منشغلة بأحداث بلاد الأرْز بصورة شبه يومية، سواء بسبب تعاظم قدرات حزب الله العسكرية وما تشكله من تهديد للأمن الإسرائيلي، أو ما تقوم به الطائرات الإسرائيلية يوميا من تحليقات دورية فوق الأجواء اللبنانية، لتحديث بنك أهدافها أو لاستهداف قوافل الأسلحة القادمة من دمشق إلى بيروت.
لكن استقالة الحريري - التي فاجأت كثيرا من دوائر صنع القرار في المنطقة وحتى الأوساط اللبنانية الرسمية- قد لا تكون فاجأت "تل أبيب"، التي سارع ساستها للتعقيب الفوري على الاستقالة، مما أوحى بإمكانية وجود تنسيق مسبق لإصدار هذه المواقف المتقاربة بشأن حدث يفترض أنه غير إسرائيلي، في حين التزمت عواصم صناعة القرار الإقليمية والعالمية الصمت على هذه الاستقالة.
تدرك (إسرائيل) -أكثر من سواها- أن لبنان هو البلد الأكثر ملاءمة لتبادل الرسائل السياسية والعسكرية بين أعداء المنطقة وخصومها، سواء لضعفه العسكري والسياسي، أو لهشاشة بنيته الاجتماعية والطائفية، أو لكثرة اللاعبين الخارجيين في ملفاته الداخلية.
وقد دأبت (إسرائيل) على أن تكون لها يد طولى في التفاعلات اللبنانية الداخلية، بدءاً بسنوات الحرب الأهلية، ومرورا بالحروب الإسرائيلية ضد الجنوب اللبناني، ووصولا للتبعات المتوقعة في قادم الأيام لاستقالة الحريري.
لا تخفي (إسرائيل) قلقها المتزايد من تحول لبنان إلى ما يشبه محافظة إيرانية، يحكمها الحرس الثوري الإيراني عبر حزب الله الذي هو إحدى أذرعه الكبرى في المنطقة، مما قد يجعل أي حرب إسرائيلية على الحزب مقدمة لتقليم أظافر طهران المتطاولة في المنطقة، والتي باتت تحيط بـ(إسرائيل) من جبهة جديدة عبر الجولان السوري.
ولعل ما زاد الرغبة الإسرائيلية في التأثير على التطورات اللبنانية التي أعقبت استقالة الحريري، ربطها لهذا الحدث اللبناني بتمدد نفوذ إيران في المنطقة، وتحريض المجتمع الدولي لاستغلال هذا التطور بالتصدي لزيادة التورط الإيراني في ملفاتها، التي تبدأ بالعراق ولا تنتهي باليمن مرورا بسوريا ولبنان.
بل إن ردود الفعل الإسرائيلية على استقالة الحريري لم تتورع عن التذكير بجاهزية الجيش الإسرائيلي لمواجهة أذرع إيران في المنطقة، قاصدة بذلك حزب الله الذي ما زال ينزف حتى اللحظة في حربه الدامية داخل سوريا.
ويبدو من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه بالتزامن مع التحذيرات الإسرائيلية من المخاطر القادمة من الجبهة الشمالية، وتحديدا لبنان عبر قوة حزب الله العسكرية؛ جاء الخطاب القاسي الذي أعلنه الحريري ضد الحزب، ثم تبعته اتهامات سعودية للحزب بأنه يعلن الحرب عليها، وربما تم تتويج هذه التصريحات المعادية للحزب باعتبار أميركا الحزبَ أداةً إيرانيةً لتخريب المنطقة والعبث بها.
هذه التناغمات غير العفوية والمتزامنة بدقة على ما يبدو، الصادرة من الرياض و"تل أبيب" وواشنطن باتجاه بيروت وطهران؛ ربما تزيد قوة التقديرات الذاهبة باتجاه نشوب حرب لبنان الثالثة، ليكون طرفاها (إسرائيل) وحزب الله، فيما تكتفي السعودية بتهيئة الأجواء السياسية، وتجييش المنطقة العربية وتحشيد عواصمها للاصطفاف خلفها، لاستئصال ما ترى أنه شأفة إيران ممثلة في حزب الله.
الحبر الإسرائيلي -الذي سال خلال الأيام الماضية- يكاد يتفق على فرضية أن استقالة الحريري ربما تكشف الغطاء السياسي عن الحزب، ليبدو لبنان -في أي حرب قادمة- دولةَ حزب الله الخالصة، مع غياب أي تمثيل "سُنّي" عن رئاسة الحكومة، مما قد يحقق نظرية "إسرائيل" العسكرية التي ستطبقها في أي حرب قادمة، باستهداف لبنان الدولة بأكمله دون الاقتصار على حزب الله.
سيكون من الصعب -في خضم هذا التحليل- أن نتناسى حقيقة قائمة بذاتها، وهي أن (إسرائيل) لا تعمل وكيلة لأحد -بما في ذلك السعودية- لمحاربة إيران أو حزب الله، فالتقاء مصالحهما لا يعني أن تضحي (إسرائيل) بجنودها وجبهتها الداخلية إرضاء لرغبات هذه العاصمة أو تلك، أو تحقيق نزوات عابرة من هذا الزعيم أو ذاك.
لكن الدهاء الإسرائيلي يكمن في استغلال لحظة تاريخية -قد لا تتكرر كثيرا- لشن ضربتها القاضية باتجاه الحزب، الذي ما زال يشكل الصداع المزمن لها على مدار الساعة.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن وضع حزب الله في صورة المعادي لهذه العواصم مجتمعة، يتزامن مع التناغم الحاصل بين الرياض و"تل أبيب" لدخول مرحلة التطبيع الكامل بينهما، وربما يأتي استهداف إيران -ممثلة في الحزب- تسريعا لهذا التطبيع، ومقدمة لطي صفحة الصراع العربي الإسرائيلي عبر ما بات يعرف بـ"صفقة القرن".
رغم الفوبيا الإسرائيلية من تنامي قدرات حزب الله العسكرية، فإن هناك آراء وتقديرات داخل "تل أبيب" تطالب دوائر صنع القرار بعدم الذهاب بعيدا فيما يبدو تصفية لحسابات إقليمية بين السعودية وإيران، وعدم تضييع البوصلة الإسرائيلية تجاه الجبهة اللبنانية التي نجحت في ردع حزب الله أكثر من عشر سنوات، والإبقاء على هذا الردع باستمرار الطلعات الجوية فوق لبنان.
هذا التقدير -على عقلانيته وبرود أعصابه- قد يتلاقى مع الخطاب الأخير لحسن نصر الله أمين عام الحزب، الذي بدا هادئاً على غير عادته في خطاباته السابقة، حين كان يرفع صوته ويعلي نبرته في مهاجمة السعودية و"إسرائيل"، محذرا إياهما وموجها تهديداته لهما معاً.
وهذا الهدوء قد يفسح المجال للقول إن الرجل لم يتحول إلى هادئ الطباع بارد الأعصاب فجأة، وإنما لاستشعاره أن أمرا جللا في الطريق إلى لبنان، وربما لا يريد الظهور أمام الرأي العام اللبناني متسببا في إشعال الحريق القادم الذي تتهيأ له (إسرائيل).
في الوقت ذاته؛ ليست الحرب المباشرة بين الحزب و(إسرائيل) على أرض لبنان هي التأثير المباشر لاستقالة الحريري، مع بداية دخول الأوضاع السياسية هناك حالة من الاستقطاب وتبادل الاتهامات، وإمكانية الدخول في فراغ دستوري بسبب هذه الاستقالة.
إن ذاكرة اللبنانيين لم تصدأ بعدُ، وهم يعلمون أن لـ"إسرائيل" وكلاء كُثرا بين ظهرانيْهم، وهم كفلاء بإشعال البلد دون أن تكون هي ظاهرة في الصورة، وإن كانت أصابعها تكاد تُرى بالعين المجردة، سواء عبر اغتيالات أو عمليات اقتتال داخلي سني/شيع، أو بين فلسطينيين ولبنانيين بمخيمات اللاجئين، وسواها من الأحداث اللبنانية الكفيلة بنشر حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي.
لعل وصول الحالة اللبنانية إلى هذه المرحلة الحرجة بهذه السرعة، وإمكانية ذهابها إلى خيارات صعبة من قبيل معركة كسر عظم بين الحزب و"إسرائيل"؛ يعيد إلى الأذهان ما شهدته الساحة الفلسطينية من مصالحة مفاجئة بين حركتيْ فتح وحماس، ورفع الفيتو الأميركي عن إبرامها، وغض الطرف الإسرائيلي عن تحقيقها، وتكليف الوكيل المصري بهذه المهمة.
حينها كثرت التقديرات عن توجه إقليمي دولي بتهدئة الجبهة الفلسطينية في غزة جنوب (إسرائيل)، تحضيرا لإشعال الجبهة اللبنانية في شمالها. صحيح أن الأحداث لا تُرسم بهذه الطريقة الرياضية السهلة، لكن مدخلاتها الأخيرة ربما تؤدي بالضرورة إلى مخرجات على نحو كبير من الخطورة، مما يتطلب تسكين جبهات وإشعال أخرى، وعدم فتح عدة بوابات دامية في الآن ذاته.
أخيراً..؛ لا أحد يمتلك تقديرا دقيقا لوجهة التطورات اللبنانية في قادم الأيام، لكن ما قد تتفق عليه معظم الأوساط في "تل أبيب" وبيروت والرياض وطهران على حد سواء، هو أن الأوضاع ذاهبة نحو التأزيم السياسي أو العسكري.
ولئن كان حزب الله يرى في السعودية عنصر توتير سياسي ودبلوماسي في لبنان، نظرا لما تحوزه من إمكانيات النفوذ والتأثير في هذا البلد؛ فإن (إسرائيل) يبقى بيدها القول الفصل في ترجمة هذا التوتر إلى سلوك عسكري عملياتي على الأرض، مما يجعل وجهة الحزب القلقة والمتوجسة نحو "تل أبيب" أكثر منها نحو الرياض!