كنّا نظنّ في أنفسنا أنّنا القابِضونَ على الجَمْرِ عندما كنّا نفهم أنّ التمسّك بالدِّين هو أن نغدوَ ونروحَ إلى المساجد، ونستمسك بالإسلام خيارًا، مع حفظ بعضِ سور القرآن والأحاديث النبويّة، وامتلاك القدرة على الاستشهاد بها خاصّة إذا لزم الأمرُ في جَلْد ظهر الباطل. لا شكّ أنّ تَجنُّبَنا المعاصي، وقدرتَنا على الاستعانة بالواجبات، كان عندنا قبضًا على الجمر.
ثمّ إنّ الأمرَ بالقبض على الجمر ارتقى بنا درجةً عاليةً، عندما دخل خطُّ الاشتباك مع المحتلّ، وصِرْنا نؤمن أنّ من مقتضيات ديننا لا بدّ من رفضه والوقوف منه موقفَ النقيضِ للنقيض. فأصبح ما كان قبضًا على الجمر في أوّل الأمر قبضًا يسيرًا بالنسبة لهذا البلاء مع المحتلّ.
ثمّ كانت درجة ثانية: انتفاضةٌ وسجون، واستعدادٌ للتضحية من أجل هذه القضيّة.
ثمّ جاء الطوفان ليكون ما قبله قبضًا على جمرٍ باردٍ دون لَهَبٍ، بالنسبة لما بعد الطوفان.
ثمّ إنّنا أصبحنا نرى أناسًا يقبضون على جمرٍ لم يُسبَق مثلُه جمر؛ ما بالُنا بأولئك القابعين في الأنفاق، يُقارعون أقوى أسلحة الدمار الشامل بأيدي أكثر الناس شرًّا وحِقدًا ولُؤمًا! في أنفاقهم يُصارعون أمريكا بكلّ أحقادها وأدواتها، ومع ذلك فهم مستمرّون في إيلام عدوّهم، وإيقاع الخسائر الباهظة به بشريًّا ومعنويًّا ومادّيًّا. مضت سنتان بجوعهم وحصارهم، لا يملكون إلا بأسَ إرادتِهم الشديدة، وعزمَ إيمانهم العظيم، وشيئًا من العتاد القليل. هذا هو الجمر الذي ما قبله أضحى بَردًا وسلامًا بالنسبة لهذا الجمرِ الملتهب. إنّهم القابضون على سلاحهم في أعماق النفق.
ها هو القبضُ على الجمر درجات، وها هم على أعلى درجاته يخرجون من عُمق الأرض ليُذيقوا عدوَّهم من نار الجمرِ القابِضينَ عليه. يستحي أحدُنا أمامهم، ولم نَعُد نصف أنفسنا أنّنا من هذا الجنس من المؤمنين القابضين على الجمر. نحن قبضْناها هَيّنةً ليّنةً، ورَضينا بغير ذات الشوكة، بينما هم القابِضونَ على الجمر بكامل مستحقّاته العظيمة التي لا محالة سترسي قواعدَ الحُرّية. القبضُ على الجمر أيّها السادة ما بعد الطوفان يختلف عمّا قبله.
القابضون على الجمر هناك في غزّة يتجلّى في القابضين على السلاح، ولقد جمعوا بين عِدّة جَمْرات في آنٍ واحد، كلّ واحدة منها أعظم من الثانية:
• جمر الحرب وصدّ العدوان، والتي لا مجال فيها للانكسار، إنّها مواجهة بقاءٍ أو فناء، مواجهةٌ مختلّة في الميزان المادّيّ اختلالًا هائلًا، بين من يملك كلَّ أشكال الطيران الحربيّ والتجسّسيّ، وكلَّ أشكال الدعم الأرضيّ بدبّاباته ومدافعه، والدعم البحريّ في صواريخه وبوارجه، ودعمٍ لا حدود له في الخبرات والمعدّات والذخائر من كلّ قوى الشرّ في العالم، وبين من لا يملك إلا عتادًا من صنعٍ محلّيّ ونَفَق.
• وجمرُ ذوي القُربى من المحيط العربي الذين تآمروا مع المحتلّ واصطفّوا معه، وخَذَلوهُم أبشع أنواع الخِذلان.
• وجمرُ فلسطينيّ يتساوق معهم ويدعو المقاومة إلى نزع سلاحها بدل شدِّ أزرها والوقوف إلى جانبها.
• ولا ننسى جمرَ المجاعة وتجويعَ الحاضنة الشعبيّة للمقاومة للضغط عليها بطريقة عدوانيّة بشعة مريعة.
ومع كلّ هذا الجمر، فإنّ القابضين عليه يُذيقون عدوّهم مرارةَ بأسِهم الشديد، ولا يُمكِّنونه من أن يستقرّ له حالٌ أو يهدأ له بال، بل هو يألم كما هم يألمون.
لم نكن نتوقّع أن يكون القبض على الجمر بهذه الطريقة العظيمة، والتي لا يقدر عليها إلا أناسٌ عُظَماء، ساروا على درب ذات الشوكة وثبتوا عليها هذه الفترة الطويلة بكلّ ما أوتوا من شجاعة وثبات.
أنّى لهؤلاء القابضين على السلاح أن يخرجوا لعدوّهم بعد كل هذا الدمار الهائل، أين كانوا وكيف خططوا وكمنوا وخرجوا لهم كالاشباح يقبضون أرواحهم ويدقّون أعناقهم ويردّوهم على أعقابهم خاسرين.
وها هم الناس منقسمون بين من هم مع القابضين على السلاح وبين من يدعو الى نزع السلاح وكشف عورات شعبهم لعدوّهم الحاقد المتربّص، وتجريدهم بما تبقى لنا من وجود وشرف، بينما ذلك النازيّ المجرم له أن يتمتّع بأبشع سلاح الأرض اجراما وفتكا.
وقد ورد في الحديث الشريف:
")يأتي زمانٌ القابضُ على دينه كالقابضِ على الجمر" (حديث صحيح.

