"ومكر أولئك هو يبور" (فاطر 10)
في دار الندوة اجتمع أبو جهل وزعماء قريش، عيونهم تتقد بالعداوة، وقلوبهم تفيض بغِلٍّ لا يعرف الرحمة، يخططون لقتل النبي ﷺ الصادق الأمين، الذي فضح فسادهم وكشف كذبهم أمام الناس. الكلمات كانت كالسهام الحارقة، لكن نور الحق لم يخفت في صدر النبي ﷺ، صامدًا كالجبال، متحديًا شرورهم ومؤامراتهم مردداً: "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون" (يس، 36:9)، مذكّرًا بأن قلوب الطغاة مهما تجمّعت لن تُطفئ نور الهداية مردداً لصاحبه في الغار: "لا تحزن إن الله معنا" (التوبة، 9:40)، وأن العدوان مهما اشتد لن ينال من معية الله تعالى: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" (الأنفال، 30).
في البيت الأبيض، اجتمع الطامعون ليخططوا لغزة بلا غزيين، احتشد بلير وكوشنير ووزراء الاحتلال، بينما غاب العرب كأنهم خارج التاريخ، مدعوون ليكونوا صرّافًا آليًا عند الحاجة، مبالغ لإعمار مشروط أو غطاء لإدارة تُفصَّل على مقاس نتنياهو. هناك، تُرسم خرائط الدم بيد ترمب، يُستبعد أصحاب الحق، ويُستحضر المجرمون من عصابات الإبادة ليقرروا مصير شعب ما زال يقاتل تحت الركام.
بلير وكوشنير يقدمان خطط اليوم التالي: الأول لإدارة دولية مزعومة كمتعهد شخصي، والثاني لتحويل غزة إلى "ريفيرا ترامب" للمترفين، بينما نتنياهو يفرض أجندته معلنًا الترحاب باستثمارات ترمب في غزة، والبيت الأبيض يغطي ويتبع، مستخدمًا المفاوضات الإنسانية كمسرحية سياسية. غزة تعرف الحقيقة: لا يومًا بعد الحرب إلا اليوم الذي ترسمه بدمها، لا بما يُكتب على طاولة الغرباء، وأن النصر الذي يريده الاحتلال يبدأ وينتهي فيها، لتصبح المدينة ساحة الحسم التاريخي، حيث الإرادة الفلسطينية تتحدى مؤامرات الظلم الكبرى.
وفي ذات توقيت اجتماع الماكرين، واشنطن تؤكد في مجلس الأمن أنها الشريك الفاعل في حرب الإبادة والتدمير الجماعي. وحدها تقف ضد إجماع 14 مندوبًا، داعمةً عصابات الفاشية الصهيونية في تجويع وقتل المدنيين، غير آبهة بالقوانين الدولية. المواقف الأمريكية تكشف أكاذيبها وزيف ادعاءاتها بالسلام، بينما تؤكد تجارب العالم أن سلام العالم يبدأ في فلسطين، وأنه لا يكون هناك سلام حقيقي إلا بظفر شعبنا بحقوقه الوطنية المشروعة في الحرية والاستقلال وحق العودة.
الاحتلال لا يكتفي بالطائرات والدبابات، بل أرسل روبوتاته المحمّلة بالموت، وطائرات مسيرة تلقي قنابل الإبادة على أسطح البيوت المتبقية من بقايا مدينة غزة، آلات صمّاء تُساق لتنسف حيًا كاملًا، فتتحول البيوت إلى رماد والأحلام إلى ركام. هذا العدوان ليس حربًا على مقاتلين، بل إبادة شاملة للمدنيين: أطفال ونساء وصحفيون وأطباء وعمال دفاع مدني، جميعهم محميون بالقوانين الدولية، ومع ذلك يُقتل الجميع بلا رحمة. المنازل تُفجّر، العمال يُستهدفون، المياه تُدمر، وما لم يُقتل بالقصف يُفتك به الجوع والمرض، ومن ينجُ منهما يموت من القهر والتشريد، ليصبح كل سكان غزة رهائن الموت اليومي.
أما بروبغاندا "الصفقة الشاملة" فهي غطاء ماكر لتمرير إبادة غزة وتهجير أهلها، وشراء وقت لحكومة التدمير والتهجير العنصري تحت رعاية أمريكية. فلا وقف للعدوان، ولا التزام بإنهاء الحرب، بل مشروع استسلام مقنّع يُراد فرضه على شعب يرفض الانكسار. الحقيقة أن المبادرة الوحيدة الجدية: وقف الحرب، انسحاب الاحتلال، وصفقة أسرى تُفتح بعدها أبواب إدارة وطنية جديدة أعلنت حماس مراراً أنها لن تكون فيها.
أجلس وسط بقايا بيتي، الركام الذي كان يومًا مأوى وحياة، مغطى بقطعة قماش، أتلمس ذكرياتي بين الحجارة المتناثرة، وأتساءل: هل سأبقى هنا غدًا؟ وفي كل زاوية من الركام ذكرى أولادي الذين ارتقوا تباعًا، أصواتهم وصورهم ترافقني في صمت القهر. كلمة "نزوح" لا تعبّر إلا عن قعر الجحيم، فهذه البقايا ليست مجرد جدران مهدمة، بل عرق الجبين وتعب السنين، هنا ولدت ونشأت وسهرت وتسامرت وتزوجت وأنجبت وفرحت وحزنت. بيتي كان رمزًا ومجدًا، وسقف أحلامي أصبح رمادًا، ومع ذلك قلبي يرفض الاستسلام.
غزة اليوم بين الانتظار المستمر والمفاوضات المعلّقة. كل بارقة أمل تتحطم بخبر جديد، تاركة روحي في قلق دائم، وأرى الأطفال والشباب في طابور الانتظار لمستقبل مؤجل، والنساء يحملن عبء رعاية الجميع وقلوبهن تصرخ في صمت. كل يوم هنا معركة نفسية، وكل تأخير يعني استمرار القصف، والسؤال البسيط "هل سننجو اليوم؟" يتحول إلى صرخة في القلب قبل النوم وبعده. ومع ذلك، بين الصبر والأمل، أحوّل الألم إلى صمود، مثبتًا أن الحياة رغم كل شيء ليست خيارًا بل أسلوب حياة.
استطلاعات الرأي تكشف: 78% من أهل غزة أعلنوا البقاء مهما كان الثمن، و97% يعرفون أن الخروج يعني المجهول بلا عودة، و94% يؤكدون أن النزوح ليس خلاصًا بل تسريع لمخطط التهجير الإسرائيلي. رغم الفقر الذي يمنع 65% من دفع تكاليف النزوح، يرى 70% أن الصمود هو السلاح الأشد فاعلية لتقصير عمر الاحتلال.
هذه ليست أرقامًا، بل شهادة جماعية تقول: "غزة لن تُنتزع من جذورها، سنبقى حيث يولد الأمل من تحت الركام."
في مواجهة مخطط الاحتلال، تقع المسؤولية على المجتمع الدولي والجوار العربي، وعلى الجميع: الإعلاميون لفضح جرائم الاحتلال وكشف زيف "المناطق الآمنة"، الوجهاء واللجان الشعبية لتثبيت الناس في أرضهم، والمؤسسات الدولية للرفض الصريح لترك غزة لمطامع الريفيرا الفارغة. المطلوب إغاثة السكان وإبراز الحقيقة، مع تسليط الضوء على كارثة التدمير الممنهج، المجاعة، وانهيار المنظومة الصحية، وكلها مخالفة للقانون الدولي والإنسانية. الاحتلال يروّج أنه يحارب حماس، لكن الحقيقة أنه شنّ حربًا شاملة على الحياة في غزة، يسحب أنفاسها من مدارسها ومستشفياتها وبيوتها.
بين رماد الحرب وخرائط الطامعين، تقف غزّة كآخر قلاع الأرض. مدينة مدمّرة الجدران لكن مشتعلة بالروح، تُشيّع أبنائها بالدموع وتصنع من الشهادة وقودًا للحياة. هنا، لا تُقاس التضحية بالأرقام، ولا يُختصر الوجع بالجداول، فكل أم ثكلى صارت مدرسة، وكل طفل يولد تحت القصف صار وعدًا جديدًا بأن شعبًا كهذا لا يُكسر. وعلى طاولات الساسة تُرسم خرائط بلا شعب، تُلوَّن بالأخضر وتُغرى بالدولارات، لكن غزّة ترد بصوت واحد: "لسنا للبيع، ولن نُرسم إلا بدمنا وكرامتنا.

