من جديد يجد المواطنون في مدينة غزة أنفسهم أمام مشهد النزوح القاسي، بعدما لوّحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي باجتياح بري واسع، ليُضاف ذلك إلى سجل المعاناة المتكررة التي يعيشها السكان منذ بداية الحرب.
فما إن عاد بعضهم إلى منازلهم عقب التهدئة الأخيرة، حتى أُجبروا على تركها مجددًا تحت وطأة التهديدات المستمرة، في رحلة نزوح لا يبدو أن لها نهاية.
في قلب هذا المشهد، تتجسد معاناة عائلة الجديلي التي نزحت في المرة الأولى من المناطق الشرقية للمدينة إلى داخلها. وخلال رحلة النزوح، فقدت العائلة أحد أفرادها في قصف استهدف فناء المنزل، ولم تتمكن سوى من إنقاذ بعض الأمتعة البسيطة. وبعد أن استضافتها عائلة أخرى لفترة قصيرة في حي الشيخ رضوان، وجدت نفسها مضطرة مرة أخرى إلى الرحيل نحو مخيم النصيرات وسط القطاع، حيث لجأت إلى أقاربها.
لكن النزوح الجديد لم يكن أقل قسوة؛ فالتنقل المتكرر بين المناطق كلف العائلة مبالغ باهظة في ظل ارتفاع أجور المواصلات، كما اضطرت إلى شراء خيام بأسعار مرتفعة جدًا لتأوي أبناءها.
يقول خميس الجديلي، الابن البكر للعائلة: "اليوم نقيم في خيام نصبت في أرض زراعية، واضطررنا إلى إنشاء دورة مياه بدائية وربطها بخط التصريف العام، لكننا ما زلنا نعاني من غياب شبه كامل لخدمات المياه، ما يجعل الحياة اليومية شديدة الصعوبة. الخيام لا تحمينا من حرارة الشمس ولا برد الليل، والأطفال يمرضون باستمرار، بينما نكافح لتأمين الطعام والشراب. نحن لا نبحث عن رفاهية، بل عن الحد الأدنى من مقومات البقاء".
ويضيف المسن عبد الحفيظ النزلي: "النزوح لم يعد مجرد انتقال مكاني، بل أصبح عبئًا اقتصاديًا ومعيشياً خانقًا. التنقل المتكرر أرهق ميزانية أسرنا الهشة واستنزف ما تبقى من مدخراتنا". ويشير إلى أن أسرته نزحت أكثر من 15 مرة منذ بدء الحرب، وهي الآن تتحضّر للنزوح نحو جنوب وادي غزة دون أن تعرف أين ستسكن، في ظل ارتفاع كبير بأسعار الشقق والمساكن. ويؤكد أن نصب الخيام أصبح عبئًا مرهقًا جسديًا ونفسيًا وماليًا.
أما السيدة أم جمال عليان، فتقول إن حياة النازحين في الخيام تكاد تكون مستحيلة، إذ تتحول الخيام إلى أفران تحت أشعة الشمس الحارقة، فيما انتشرت الأمراض الجلدية والبثور على أجساد أطفالها. وتوضح أن موجة الحر الأخيرة كانت الأصعب على الإطلاق، خاصة مع غياب تام للمستلزمات المعيشية، ما ترك الأسر في مواجهة قاسية مع المرض والعطش وانعدام مقومات الحياة.
وتضيف: "حاولت استئجار شقة في مدينة دير البلح وسط القطاع، لكن الأسعار مرتفعة جدًا وتفوق قدرتي المادية، خاصة مع الطلب الكبير على الشقق. لذلك لم يكن أمامنا سوى النزوح إلى الخيام رغم صعوبتها".
من جهته، يؤكد الاختصاصي وليد الجدي أن النازحين لا يواجهون فقط فقدان المأوى، بل يرزحون تحت أعباء اقتصادية واجتماعية خانقة. ويشير إلى أن التنقل المتكرر يضاعف تكاليف الحياة اليومية، ويستنزف المدخرات، ويزيد الضغوط النفسية على أفراد الأسرة، خاصة الأطفال والنساء وكبار السن.
ويضيف الجدي أن هذه الأزمة تترك أثرًا طويل الأمد على الاقتصاد المحلي، حيث تتضاعف أسعار الإيجارات والخيام والمواد الغذائية، وتصبح القدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية شبه مستحيلة. كما أن الكثافة السكانية في مناطق النزوح تزيد من الصعوبة في تأمين المياه والخدمات الصحية، ما يفاقم معاناة الأسر ويجعلها أكثر عرضة للأمراض والمشكلات الاجتماعية.
ويختتم الجدي بالقول: "شهادات الأهالي تكشف عن تناقض صارخ: إما البقاء في منازلهم تحت التهديد المباشر بالقصف والاجتياح، أو النزوح إلى أماكن مكتظة تفتقر إلى أبسط الخدمات، حيث تبحث العائلات عن جرعة ماء أو قطعة قماش تقيها الحر والبرد".

