﴿*وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي*﴾ [طه: 39]
غزة، مقامٌ أقامه الله في قلب الزمان والمكان، حيث تتشابك الجغرافيا بالتاريخ ويلتقي الوحي بالدم، لتصبح بقعةً من الأرض أضيق من أن تحمل هذا القدر من الملاحم، وأوسع من أن تُحتوى في خرائط أو تقارير. ليست مجرد مدينة، بل آية ربانية تصفع كل من ظن أن الظلم يدوم، وتفضح كل خائن تحت عباءة الحياد. غزة، التي قُدّرت لها أن تكون الميدان الأخير للطغاة والمحراب المضيء للمرابطين، تقف اليوم مكللةً بالدم، شامخة، تصنع السلاح، وتعلّم أن النصر لا يُمنح، بل يُنتزع. ليست أزمةً سياسية ولا ملفًا تفاوضيًا، بل مقامٌ اختاره الله، وساحة وعد، ومحرقةٌ للظالمين، وسيف حق يُشحذ على صخرة البلاء لإعادة الأمة إلى بوصلتها. من أراد فهم التاريخ فلينظر إلى غزة، ومن أراد الاصطفاف مع الله فليلتحق بها؛ فهي أرضٌ لا يعمر فيها ظالم، ومن أقام فيها بصدق أقامه الله على ثغرٍ لا يُؤتى الإسلام منه، وكتب له من التاريخ مقامًا لا تبلغه كلمات البشر، بل وعد الله الذي لا يُخلف الميعاد.
غزة، بوابة أفريقيا إلى آسيا وعنق الزجاجة التاريخي، كانت قبل الطوفان مدينةً تمشي بثقة على عتبة المعجزة، تجمع البحر والمحراب، الأسواق والمقاومة، الشاليهات ومجالس التحفيظ، مرآةً تعكس الدنيا ببهائها والآخرة بصفائها. ومع كل هذا الجمال، بقيت غزة واقفةً على ثغر العزة، تصنع رجالها في محاريب الليل وخنادق المرابطة، وتثبت أن نعم الله لا تُعد: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. الزائرون يعودون مبهورين بالبنية التحتية العصرية، الأسواق المزدهرة، الشواطئ الممتدة، المساجد العامرة، والشباب في صفوف الرباط الليلي مستعدين دائمًا للدفاع عن الأرض. إنها تجمع بين نقيضين: تحتضن الدنيا والآخرة، وتحقق التوازن بين الحياة اليومية وروح المقاومة.
رغم ضيق مساحتها، غزة ليست ضعيفة؛ هي رمانة ميزان المقاومة وعمود خيمة القضية الفلسطينية. حفرت أنفاقها، صنعت سلاحها، وقدمت دماءها قربانًا لله، إيمانًا بأن النصر يُنتزع كما كان موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. هنا تجري محطات المقاومة من الفرقان إلى وفاء الأحرار، من حجارة السجيل إلى سيف القدس، لتصبح "الطائفة المنصورة" التي وعد بها رسول الله ﷺ، فلا يضرها من خالفها ولا من خذلها، ويُرفع مقام كل من عاشها وصدق معها.
غزة أرضٌ مباركة، كما وعد الله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21]، و{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. لا يعمر فيها ظالم، ومهلكة لكل من جاهر بالفساد. عبر التاريخ، لم يستطع أي احتلال الاستمرار فيها؛ الصليبيون انهزموا، التتار سقطوا عند عين جالوت، ونابليون دُحر على أبوابها. واليوم، النازيون الجدد يمارسون أفظع الجرائم، لكنهم يُساقون إلى مهلكهم كما كان الحال مع الظالمين عبر العصور: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183].
المستقبل الحتمي بأمر الله قادم، ولن يخرج الصهاينة كمحتل غاصب عن قدر الله، فهم في أرض فلسطين مهلك الظالمين: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]، {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104]. الله الغالب على أمره يصنع غزة لتطلق ملاحم التاريخ، فتكون العزة والنصر للأمة بأسرها. فمن عاشها يدرك أن "مقامك حيث أقامك"، حيث المرابطون في عقدهم القتالية، وحيث الحفاظ في المحاريب نهارًا، وما بينهما خلايا نحل تعمل في كل ميدان إعدادًا وتربية. على كل إنسان أن يرسم مساره ويبحث عن دوره في ميدان الشرف الذي تخطه غزة بدمائها ودموعها وآلامها وبيوتها، رباطًا في سبيل الله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200]، في انتظار وعد الله لغزة، يوسف هذا الزمن {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 21]، رغم كل كيد إخوته وألم الابتلاء، فالله صاحب الأمر والمشيئة: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].

