﴿*وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*﴾ البقرة، 155
على أرض غزة التي شهدت آلاف السنين من الصمود، يرسم إعلان الأمم المتحدة عن المجاعة المرحلة الخامسة IPC صورة محرقة لم يعرفها التاريخ الحديث: أكثر من نصف مليون إنسان يعيشون تحت تهديد الجوع الحاد والموت، الأطفال دون الخامسة يواجهون مصيرًا مظلمًا، النساء الحوامل والمرضعات يواجهن خطرًا يهدد حياتهن وأطفالهن، والأمراض تنتشر بلا رحمة؛ الإسهال يحاصر 43% من الأطفال، والحمى 58%، والتهابات الجهاز التنفسي 25%، وكأن الموت يتنقل في الأحياء بلا هوادة، وكل لحظة تأخير تضيف إلى لائحة الضحايا أسماء جديدة لن تُنسى.
إنها محرقة وحصار لا إنساني دموي أدى إلى مقتل أكثر من 62,000 شخص وجرح 155,000، نزوح 1.9 مليون شخص أي 90% من السكان، تدمير 98% من الأراضي الزراعية، حظر صيد الأسماك، وانهيار شبه كامل للخدمات الأساسية من مياه وصحة وصرف صحي. المنسق الأممي حذر: الوفيات الناجمة عن الجوع قد تُرقى إلى جريمة حرب تمثل القتل العمد، وغزة ليست مجرد ساحة قتال، بل محرقة إنسانية متكاملة، حيث يقود الحصار والقتل المنهجي إلى مجاعة جماعية، لتصبح المدينة بأكملها رهينة للسياسة والعدوان، وكل يوم تأخير هو سقوط مزيد من الأبرياء.
غزة ليست مجرد أرض، بل قلب ينبض في صدر التاريخ، وجسد يحمل ذاكرة آلاف السنين من الصمود والحضارة، ونفس لا تعرف الاستسلام. وفي هذا اليوم المجوّع من أيام محرقتها، صار الجوع فيها أكثر من ألم في البطون، صار صرخة الروح، صار عطش الأرض كلها، يبكي مع الأطفال والنساء والشيوخ الذين يقفون على حافة الحياة والموت. تبحث عن كسرة خبز فلا تجد، عن قطرة ماء فلا تظفر، حتى الدعاء يتقطع في الحلق كأن الأرض نفسها تحتضر معك، وكل حجر وكل جدار يئن باسم من رحل، وكل خيمة ملطخة بالدماء تروي مأساة شهداء صغار كانوا يلهون بالكرة على أبواب مراكز نزوحهم قبل أن تتحول حياتهم إلى موت وجوع ودمار.
وسط الطوابير التي تمتد بلا نهاية، تقف الأم قلقًا على نصيب طفلها من ماء الحياة، بينما يحكي الأبناء عن سوق محاصر بأسعار خيالية، حيث العجز عن إطعام الأحبة يتسلل كسم قاتل، أقسى من رصاص الاحتلال. شهداء شباب يرسمون درب التضحية بدمائهم بحماية شاحنات المساعدات، يحاربون سياسة التجويع بصمودٍ وشجاعة، كأن الموت أصبح ثمنًا ثمينًا للدفاع عن الحياة.
في طوابير المياه والطعام، تتدافع العائلات بلا أمل، وقلوب الآباء ترتجف خوفًا على نصيب أطفالهم. تسمع من الهواتف صوت البنات الصغيرات يحكين عن الأسواق المدمرة، عن الحليب المفقود، عن الأسعار الخيالية، لتدرك أن العجز أفظع من القتل، وأن الموت هنا أصبح جوعًا وحرمانًا وانكسارًا للكرامة.
بالأمس ارتقى طه وبهاء، شابان من شباب العائلة، شهيدين أثناء محاولتهم تأمين شاحنات المساعدات، وكأن الموت صار ثمنًا لمن ينقذ غيره من الموت. إبن العم أبو أحمد فقد أولاده الثلاثة في رحلة لجلب طعام من بيته المدمر، بينما نجت أم سعيد بولدها بأعجوبة بعد مواجهة الموت مرتين، لتعود الفرحة وتوزع ما استطاعت من طحين ابتهاجًا بنجاته، لكن آلاف الأرواح الأخرى لا تجد من يرفعها من الطين والدم، لتصبح غزة لوحة حية للمأساة، كل لحظة فيها تُعد على أعصاب العالم، وكل نفس فيها يصرخ من الألم والحياة معًا.
في مشاهد تدمي القلب، يُقتل الأبناء وهم يبحثون عن لقمة، والأمهات تلهث من أجل النجاة وسط خرائب الحرب والدمار. هذه ليست مأساة جديدة، بل استمرار لحصار تجويعي ضارب في أعماق غزة سنوات طويلة، حيث تحوّل الخبز والمساعدات شريان الحياة الوحيد. على الجميع الزحف خلف المساعدات الشحيحة القادمة عبر البر أو الجو، يزاحمون ويخاطرون بحياتهم، وأطفالنا الكبار يتحملون مسؤولية عائلاتهم، إلى جانب إصرارهم على الثأر لأهلهم، ومسؤولياتهم في تحرير الأرض.
ومع كل هذا الألم، تظل غزة كائنًا حيًا، تتنفس الصمود، وترفض الانكسار، فالأرض باقية، والشعب باقٍ، والأمل لا يموت، وكل حجر يُهدم يولد حجرًا آخر في جدار الصمود، وكل طفل يُنجى هو انتصار للإنسانية، وكل حياة محفوظة رسالة بأن العدالة ستعود مهما طال الليل ومهما تكاثرت الطغاة، وغزة صرخة في وجه الظلم، أيقونة للمقاومة الإنسانية، رسالة تحذير للضمير العالمي، مؤكدة أن استمرار القمع والمجاعة لن يدوم، وأن وعد الله سيُثبت: "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله".
التوصيات الأممية واضحة: وقف فوري لإطلاق النار، ضمان وصول المساعدات الغذائية والصحية والمياه دون عوائق، حماية المدنيين والبنية التحتية، واستعادة تدفق الخدمات الأساسية، لكن هذه مجرد خطوة أولى في مواجهة مأساة تعصف بالقطاع، لتكون رسالة لكل العالم: غزة باقية، والإنسانية أمام اختبارها الأعظم، غزة ليست مجرد مدينة، بل رمز الحياة والحرية والكرامة، وشعبها لن يستسلم، وكل صامد فيها شهادة حية على قوة الفلسطيني، وعلى أن الحق لن يُمحى، مهما طال الليل ومهما تعاظم الطغاة، فغزة صرخة، وغزة أمل، وغزة رسالة لا تموت، والحياة والحرية والكرامة لن تُقهر إلا إذا استسلم الإنسان، والفلسطيني لن يستسلم، وغزة تتنفس المجاعة والألم والأمل في آن واحد، لتكون ملحمة حيّة تتحدث عن تاريخ، حاضر، ومستقبل شعب لا يلين.
وغزة اليوم كلها ستنتصر على جريمة التجويع الممنهج لأنها رمز المقاومة والكرامة، تكتب بقصتها الملحمية أن الشعب لا يُجوع إلا بالقسر، ولا يموت إلا بإرادة من يحكمون الموت. إنها ليست مجرد نضال من أجل الحياة، بل ثورة من أجل العدالة والإنسانية التي لا تُقهر.
حقٌ علينا أن نعتز بمكانة فلسطين والقدس كعقيدة تسكن القلوب، ومعرفة عدوّنا العنصري "ليس علينا في الأميين سبيل" تجعلنا ننظر إلى هذه الابتلاءات كاختبار من الله تعالى لصقل أصحاب الحق في فلسطين، فتترسخ قيم الحرية والعدالة، ويثبت الصابرون ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ الأنفال – 45، ويكون النصر بإذن الله مع الصابرين ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة – 155.

