لا تقتصر أسباب الموت في غزة على الصواريخ والقذائف الإسرائيلية أو الجوع أو الأمراض والأوبئة، بل وصلت لنهاية رحلة الإنسان في البحث عن الطعام؛ للهروب من المجاعة الكارثية التي حصدت حتى اللحظة 239 شهيدا، بينهم 106 أطفال.
الحاج الستيني زكريا عيد هو واحد من الآباء الذين فقدوا أربعة من أبنائهم خلال حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على غزة للشهر الـ21 على التوالي، بمختلف أسباب الموت.
آخر الشهداء هو "آخر العنقود" طفله المدلل (مهند/ 14 عاما)، الذي ارتقى هذا الأسبوع نتيجة سقوط صندوق مساعدات فوق جسده خلال عملية إنزال جوي غرب مخيم النصيرات وسط القطاع.
كان "مهند" يحاول البحث عن لقمة طعام من بين حشود المجُوعين الذين يترقبون مساعدة إنسانية أو عملية إنزال لمساعدات غذائية جوا من طائرات عربية وغيرها؛ للنجاة بأسرته من "الموت بالجوع" عقب إغلاق جيش الاحتلال جميع المعابر المؤدية إلى القطاع مطلع مارس/ آذار الماضي وحتى اللحظة.
"الأكل" و"الماء" أحلام بل حقوق بسيطة لأي طفل أو إنسان كان يتمناها الأب لأبنائه وطفله "مهند" لكن "المقتلة الإسرائيلية" تسببت بكارثة إنسانية أوقعت سكان القطاع البالغ عددهم 2.4 مليون إنسان في سلسلة أزمات إنسانية ومعيشية وصحية غير مسبوقة في العصر الحديث ودفعتهم للبحث عن النجاة وسط حقل الموت.
"ماذا سيجلب هذا الطفل (مهند) من بين حشود المجٌوعين؟" سؤال يردده الأب المكلوم على دول عربية وأجنبية: "بالطبع .. القليل من العدس أو المعروكة إن استطاع الحصول عليها!" وذلك في إشارة إلى استهجانه لآلية إنزال المساعدات جوا من الطائرات التي انتهت بمقتل طفله.
"هذه ليست طريقة لإنقاذ المدنيين، هذه طريقة تنفذ في الغابات أو الصحراء"، يقول الأب الغاضب إنه "بدلا من ضغط تلك الدول على (إسرائيل) لفتح المعابر تقوم بإلقاء مساعدات لا تكفي المجُوعين ولا تقضى على المجاعة".
لا يزال الأب مفجوعا برحيل طفله "دينامو البيت" وصاحب "الظل الخفيف" لأسرته طوال أيام الحرب، يبكيه والده بين حين وآخر ويشير بيديه لأماكن جلوسه ومقتنياته الخاصة داخل منزله الواقع في المخيم الجديد شمال مخيم النصيرات.
يقول: "مهند من كان يبحث لنا عن الطعام .. مهند من كان يجلب لنا الماء .. مهند ما كان سند لنا".
لم يكن الطفل المحروم من دراسته منذ عامين إثر حرب الإبادة، وحده، الذي ارتقى نتيجة السقوط الخاطئ لصناديق المساعدات الجوية فوق المواطنين أو خيام النازحين بل وصلت ضحايا هذه الآلية لـ23 شهيدا، وهو واحد أيضا من 18 ألف طفل ارتقوا خلال هذه الحرب. وفقا لإحصائيات حكومية.
"ليس الهدف هو إنهاء المجاعة أو إنقاذ حياة المدنيين بل الموت بمختلف أشكاله" يجزم والد الشهداء أن هذا هو هدف (إسرائيل) – ولو أنها أرادت دون ذلك – لسمحت بدخول شاحنات المساعدات يوميا بآلية مستدامة بدلا من حصد أرواح المدنيين عبر صناديق المساعدات.
وإزاء هذه الكارثة، قال وزراء خارجية 27 دولة ومفوضين أوروبيين إن المعاناة الإنسانية في غزة بلغت مستويات "لا تُصدق" وإن المجاعة تتكشف على نحو متسارع، مطالبين (إسرائيل) بالسماح بدخول جميع مساعدات المنظمات الدولية إلى القطاع.
في ذات المنزل الذي لا يزال الحزن يخّيم في أرجائه منذ بداية الحرب، تعيش الأم المكلومة (نائلة 58 عاما) في حالة "صدمة نفسية" بعد رحيل "طفلها المدلل".
"اشبعنا موت .. اشبعنا قهر .. بكفى والله بكفى!" تقول الأم بصوت يخنقه الحزن على محطات مؤلمة عصفت بأسرتها خلال هذه الحرب، أولها استشهاد ابنتها (أمل) برفقة زوجها وأطفالها بداية الحرب.
وفي ليلة السابع والعشرون من رمضان، ارتقى نجلها الثاني (أحمد 28 عاما) أثناء مروره في طريق عام فأصابته شظية صاروخ إسرائيلي سقط في المكان، وفي 20 يوليو/ حزيران الماضي ارتقى نجلها الثالث (يحيي/ شق التوأم لشقيقته أمل) أثناء ذهابه لجمع الحطب من أجل إيقاده لطهي الطعام لأسرته، وآخرهم "مهند".
اثنان ارتقيا بفعل الصواريخ والقذائف الإسرائيلية، واثنان ارتقيا أثناء مهمة البحث عن الطعام أو الحطب لطهي الطعام، وذلك بعد منع جيش الاحتلال إدخال الوقود والغاز والمستلزمات الصحية والإمدادات الغذائية والإنسانية لغزة.
تقول الوالدة: "كل مرة يخرج فيها أولادي للبحث عن الطعام أو البحث عن سبل الحياة .. يعودون إلينا جثامين، كل هذا بفعل الإبادة الإسرائيلية التي حصدت البشر والحجر والشجر".
وعلى أية حال، لا يأمل الزوجان سوا بأمنية واحدة: "وقف حرب الإبادة" ووقف أشكال الموت معها ليحصل الناجون منها على "بعض حقوقهم الآدمية أو ليتوقف نزيف الدماء والموت".
"أوقفوا جرائم (إسرائيل)، أوقفوا هذه الحرب .. دعونا نعيش بأمان" يختم والدا الشهداء الأربعة.

