في قطاع غزة المحاصر منذ أكتوبر 2023، لم يعد الجوع مجرد شعور مؤقت في بطون خاوية، بل تحوّل إلى حالة صحية طارئة تهدد الحياة، بحسب خبير التغذية والتثقيف الصحي هشام حسونة، الذي حذّر من أن سكان القطاع يعانون مجاعة حقيقية، تسببت في سوء تغذية حاد وانتشار أمراض خطيرة ووقوع وفيات بين الفئات الأكثر هشاشة، خاصة الأطفال دون سن الخامسة، والنساء الحوامل، والمرضى وكبار السن.
نقص في النوعية والكمية
يوضح حسونة لصحيفة "فلسطين" أن ما يحدث في غزة يُجسّد حالتين متزامنتين: "نعيش في غزة تحت وطأة جوع حاد ومزمن. الجوع هو نقص في كمية الطعام، أما سوء التغذية فهو غياب العناصر الأساسية في الغذاء، مثل البروتينات والمعادن والفيتامينات. نحن نفتقد الاثنين."
ويضيف أن الاعتماد شبه الكامل على النشويات، كالمعكرونة والخبز، دون أي مصادر أخرى، يجعل الناس عرضة لتدهور صحي خطير: "جسم الإنسان لا يستطيع العمل بالنشويات فقط، فهو بحاجة إلى دهون صحية، وبروتينات، وخضروات، ومعادن، وكلها مفقودة."
تحذيرات حسونة تتقاطع مع أحدث التقارير الدولية، إذ أعلنت منظمة الصحة العالمية أن قرابة 12,000 طفل دون سن الخامسة في غزة يعانون من سوء تغذية حاد في يوليو 2025 وحده، وهي زيادة مقلقة مقارنة بشهر يونيو الذي سُجّل فيه 6,344 حالة فقط.
كما رصدت المنظمة 63 حالة وفاة مرتبطة بسوء التغذية في يوليو، من بينها 24 طفلًا دون الخامسة. أما منذ بداية العام، فقد وثّقت وزارة الصحة الفلسطينية 99 وفاة بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم 35 طفلًا – 29 منهم دون الخامسة.
ويؤكد حسونة: "هذه الأرقام ليست إحصائيات صامتة، بل أرواح حقيقية تُزهق بسبب سياسة التجويع وغياب أي تدخل إنساني فاعل."
الأعراض
يتحدث حسونة عن الأعراض التي تظهر على السكان بشكل متسارع نتيجة سوء التغذية: "أكثر الأعراض شيوعًا: تساقط الشعر، الخمول، آلام المفاصل، اضطراب النوم، فقدان الشهية، والهزال الواضح خاصة عند الأطفال. نراها يوميًا."
وتُظهر بيانات برنامج الأغذية العالمي أن نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد في مدينة غزة بلغت 16.5%، أي أكثر من طفل من بين كل ستة أطفال، وهي نسبة تقترب من مؤشرات المجاعة. كما أن أكثر من 40% من النساء الحوامل والمرضعات يعانين من سوء تغذية حاد، ما يُعرّض الأجنة لمخاطر صحية جسيمة قبل ولادتهم.
يشير حسونة إلى أن الخيارات الغذائية المتاحة حاليًا في غزة محدودة للغاية: "الناس يعيشون على الخبز والماء، وأحيانًا القليل من الأرز أو العدس إن وُجد. لا يوجد بروتين حيواني، ولا منتجات ألبان، ولا حتى فواكه. هذه بيئة خصبة لظهور أمراض مزمنة على المدى القريب والبعيد."
ورغم وجود بعض المنتجات الزراعية الموسمية، إلا أن غلاء الأسعار وانعدام الدخل يُشكلان حاجزًا إضافيًا: "حتى من لديه إمكانية الوصول للطعام، لا يستطيع شراءه. القدرة الشرائية انتهت، الأسواق شبه خالية، والزراعة مدمرة."
غياب التنوع الغذائي
يفرّق حسونة بين نوعين من سوء التغذية: "هناك سوء تغذية بسبب قلة الكمية، وهذا هو الأخطر، لأنه يؤدي إلى انهيار الجسم سريعًا. وهناك سوء تغذية بسبب غياب التنوع، وهو أقل حدة لكنه يسبب أمراضًا مزمنة. في غزة، نعيش النوعين معًا."
تشير تقديرات "شبكة تحليل الأمن الغذائي المتكامل (IPC)" إلى أن نصف سكان القطاع تقريبًا – نحو 1.1 مليون شخص – يعيشون حاليًا في المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي، أي مرحلة "الكارثة/المجاعة"، وهي أعلى درجات التصنيف.
وبحسب التقديرات، فإن الفترة من أبريل 2025 إلى مارس 2026 ستشهد إصابة نحو 71,000 طفل بسوء تغذية حاد، منهم 14,100 طفل بحالة شديدة الخطورة تهدد حياتهم مباشرة.
نصائح في ظل المستحيل
رغم قساوة الواقع، يقدم حسونة بعض النصائح التي قد تساعد في التخفيف من الأثر إن توفرت الظروف لذلك: "الماء أساسي. شرب كميات كافية منه يساعد على تقليل الجفاف وتحسين وظائف الجسم. من المهم أيضًا توزيع الوجبات على فترات متقاربة بدلًا من تناولها دفعة واحدة. حتى لو كان الطعام قليلًا، تنظيمه مهم."
ويضيف: "أنصح أيضًا بشراء الطعام بكميات صغيرة وعلى فترات، وعدم تخزينه لفترات طويلة، والتواصل مع اختصاصيي التغذية إن توفرت الإمكانية. نحتاج وعيًا غذائيًا بقدر ما نحتاج طعامًا."
يختتم حسونة حديثه بتحذير واضح: "ما يحدث اليوم في غزة لا يهدد فقط صحة الأفراد، بل مستقبل مجتمع كامل. جيل بأكمله سينشأ بجهاز مناعي ضعيف، وأجسام غير مكتملة النمو، ونفسية مثقلة بالإجهاد الغذائي والنفسي."

