*﴿وَيُطعِمونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسكينًا وَيَتيمًا وَأَسيرًا﴾*الإنسان: 8
*غزة تُطعم الأسرى من جوعها*
حين تتفحّم الأخلاق في أتون المحارق، وتنكشف الأقنعة عن وجوه الطغاة، تظلّ غزة شعلةً للإنسانية لا تنطفئ... هذه الآية ليست مجرد كلمات، بل واقع يُكتب بالدم واللقمة والوفاء في زمنٍ عزّ فيه الطعام وغاب فيه الضمير.
في محرقة الغدر والإبادة، حيث يقتل الاحتلال الأبطال وتُنكسر القلوب، أشرقت قيم المقاومة في غزة كضوء لا يخبو، تجسدت أخلاقها النبيلة في معاملة الأسرى معاملة تفوق توقعات العالم، بل تتجاوز كل فهم بشري حين تُقاس بموازين الحروب. في وقت المجاعة والجراح، أطعموا الأسرى من لُقيماتهم، وواسوهم بأخلاقهم، وقاسموهم ما توفر من شُحّ، ووقفوا شامخين كالصخر في وجه سادية العصابات التي هبطت إلى حضيض الأخلاق.
حين تسقط الوحشية، يُولد الحق. وحين تتهاوى أقنعة "إسرائيل"، تتجلى كرامة غزة، وصبرها بشارة نصر آتٍ لا محالة. ذلك أن المقاومة لم تكن يومًا رد فعل، بل فعلًا أخلاقيًا متجذرًا في القيم والشرع.
تلك الصورة الأخلاقية لم تكن خيالًا، بل شاهد العالم رأي العين أسرى الاحتلال في التبادل في نوفمبر 2023، وفي فبراير 2025 وبعد مجزرة النصيرات التي أزهقت فيها أرواح المئات لتحرير أربعة فقط، ظهر أسرى الاحتلال بوجوه صحية مشرقة، حتى علّقت صحفية عبرية بأن إحدى الأسيرات "كأنها خارجة من صالون تجميل"، فما كان من "نتنياهو" إلا أن طردها لتجرّؤها على قول الحقيقة!
وقبل أيام، صرّحت إحدى الأسيرات العائدات بأنها تلقت أفضل معاملة وأحسن طعام، وجلست لساعات مع شباب المقاومة الذين عاملوها برقي، دون أن يلمسها أحد. هذه شهادة العدو، لا شهادة الأصدقاء.
وفي الجهة الأخرى من المشهد، بينما تنهش أنياب التجويع خاصرة غزة، وتبلغ مجاعة الاحتلال عصب عمقها، لم تنكسر إنسانية المقاومة. تآكلت أجساد المجاهدين من الحصار والجوع، لكنهم ظلوا يطعمون الأسرى ما لا يجدونه لأنفسهم. تحسّنت صحة الأسرى، بينما وهن عظم المقاومين، فقط لأنهم جسّدوا قول الله: ﴿ويُطعِمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مسكينًا ويتيماً وأسيراً﴾، وتابعوا درب الكرامة، لم يحدوا عنه ولم يساوموا عليه، رجالٌ لا يأسرهم الجوع، ولا تُبدّلهم المحنة.
في المقابل، سقطت "إسرائيل" أخلاقيًا وإنسانيًا وقانونيًا حتى وصلت إلى حد المحاكمة الدولية. وما سجن "سيدي تمان" عنا ببعيد؛ حيث استشهد فيه عشرات الأسرى، وبُترت أطراف المئات، حتى فاحت الفضيحة الأخيرة: اغتصاب وتعذيب حتى الموت، في أبشع صور الانهيار الأخلاقي، بينما جاء تبرير الاحتلال عبر زعم إجراء "تحقيق داخلي" لتلميع صورته دوليًا.
وما إن بدأت الشرطة العسكرية إجراءات التحقيق، حتى اقتحمت عصابات الفاشية المعتقل بقيادة وزراء ونواب كنيست، تمامًا كما فعلوا في "بيت ليد"، لمنع أي مساءلة. وبالتزامن، أحرق متطرفو "فتية التلال" قوافل المساعدات، بتوجيه من حاخامات يرون الفلسطينيين "حيوانات وبهائم وجوييم" – كما في نصوصهم – ويؤمنون أن "ليس علينا في الأميين سبيل" ﴿آل عمران: 75﴾. …ولأن السقوط الأخلاقي لا قاع له، شهد العالم فصلًا آخر من فصول الإبادة والتوحش، حين زار كلٌّ من نتنياهو ووزير الفاشية إيتمار بن غفير أحد السجون التي يُعتقل فيها أسرى السابع من أكتوبر، حيث لا يُسمح لهم برؤية الشمس، ولا يُقدَّم لهم سوى وجبة شحيحة بالكاد تُبقي الجسد حيًا.
جاءت الزيارة مصحوبة بتصريحات علنية تؤكد أن هؤلاء الأسرى "لن يُفرج عنهم في أي صفقة تبادل، ولن يروا النور أبدًا"، بل توعّدوا بأنهم "سيبقون هناك حتى يتعفنوا أو يُقتلوا بالصعق الكهربائي". إنها ليست مجرد معاملة وحشية، بل إعلان رسمي بالقتل البطيء... تحت رعاية دولة تدّعي أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
أية حضارة تلك التي تتباهى بالظلام والزنازين؟ وأي قانون يُصادق على تحويل البشر إلى أجساد تتحلل في القيد؟ وأي عالمٍ هذا الذي يسمع ويرى ويصمت، بينما تُمارس السادية بأبشع صورها تحت الأضواء، لا في الخفاء؟ إنها عقيدة إبادة، لا فقط سياسة احتلال. ومع استمرار المجازر، وسيطرة دولة المستوطنين على القرار، بات مستقبل "إسرائيل" غامضًا، فجيشها المنهك يهرب للأمام، لكن الهروب يحمل له خطرًا أعظم من طوفان السابع من أكتوبر... {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} الحشر: 2
وما كان سقوطهم الأخلاقي المريع غريبًا، فهم لا يرون في الشعوب الأخرى بشراً. أما غزة، فإناءها ينضح كرامة وصبرًا ونبلاً، لأن معدنها من نور، وذخيرتها من إيمان، وتربيتها من قول الله وفعل رسوله.
في زمنٍ تكسّرت فيه الأقلام، وارتجفت فيه الضمائر، تطلّ غزة من بين الركام كأنها نبوءة النور في زمن العتمة، تقاوم بجوعها، وتُقاتل برمقها، وتُحارب بالحجر والدمع والحبر... بينما يضجّ العالم بالضجيج، يصنع الفلسطيني من ألمه معجزة صمود، ومن أشلاء أبنائه حكاية كرامة، ومن تحت أنقاض بيوته بيانًا للحرية.
وما النصر إلا صبر ساعة... وإنها لمعركة القيم، ومعارك القيم لا تُهزم، لأنها ببساطة... مع الله.
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾
الشعراء: 227

