﴿لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ﴾
من غزة بدأت الملحمة
في ظلال آية الإسراء ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [الإسراء: 7]، يحيا أهل غزة اليوم تفاصيل ملحمة كبرى تُساء فيها وجوه الغاصبين، وتنكشف خلالها وجوه الظالمين والمتواطئين والمنافقين، في محرقةٍ صهيونيةٍ لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في القسوة والإجرام.
لكنها، بالمقابل، كشفت عورات عالمٍ ظالم، وأسقطت أقنعة نظامٍ دوليّ تقوده أمريكا، وجمّدت مشاريع الركوع للقتلة ومغتصبي الأرض فيما يُسمى بـ"التطبيع"، وأرست معالم مرحلة جديدة يخطّها شعب فلسطين بدمه وصموده، وعلى رأسه غزة العزة، التي باتت أيقونةً للحرية والكرامة، وملهمةً لثورات المظلومين.
لقد تجلت آياتُ الكتاب المسطور في وقائعِ الكتاب المنظور، وظهر التطابقُ التام بين الوعد الرباني ومسار الأحداث على الأرض. فها هو الكيان الصهيوني، في ذروة علوّه وفساده، ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 4]، يقترف أبشع المجازر ويمارس جرائم الإبادة بحق غزة، مدعومًا ﴿بِحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 112]، تمثّله أمريكا ومن شايعها من أنظمة وظيفية أفسدت الأرض واستكبرت فيها.
لكن غزة، رغم الحصار والمحرقة، دشّنت بدمائها ملحمةَ وعد الآخرة، بإساءة وجه المحتل في 7 أكتوبر، في خطوة بدت مجنونة في ميزان البشر، لكنها كانت قدرًا ربانيًا مقدرًا ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ﴾ [طه: 40]، خطوة مزّقت هالة التفوق الصهيوني، وأسقطت سطوة الرعب والردع، وكشفت هشاشة الكيان، لتبدأ المرحلة الأولى من الوعد: إساءة الوجه، على أن تتلوها المرحلتان: دخول المسجد، ثم تتبير ما علوا تتبيرًا.
وفي مشهدٍ تتجسد فيه نبوءةُ الوحي، تُساق جموع جنود الاحتلال أذلّاء، مكسوري الشوكة، تطاردهم أقدام المجاهدين الحفاة، وتُسحق كرامتهم تحت نعال الجوعى والعراة الذين لا يملكون إلا الإيمان والعزيمة. فها هي وجوههم تُساء بالفعل، لا مجازًا، وقد بات القتل والأسر والدوس على رقابهم واقعًا حيًا تنقله عدسات المقاومة من ساحات الاشتباك ومن أنفاق العز وركام الدمار الذي أفسدوه.
إنه مشهد إساءة الوجه كما توعّد الله، يُذل فيه الغاصب على يد من ظنّ أنهم بلا حول ولا قوة، فإذا بهم أصحاب البأس الشديد، واليد العليا، والكلمة المدوّية التي تزلزل أركان المشروع الصهيوني. فمن تحت الركام، خرج أبناء غزة بأسنانهم وأظفارهم، فقتلوا جنود النخبة، وأسروا القادة، وكسروا هيبة ما سُمّي بـ"الجيش الذي لا يُقهر".
لم يكن إذلالًا عاديًا، بل إذلالًا إلهيًا مقصودًا، فيه خزي ظاهر، ووصمة لا يمحوها الزمن. إذلال يُبَثّ على الهواء مباشرة أمام عيون العالم، فتُسحق الأسطورة الصهيونية، ويُهان الجندي المدجج على يد من لا يملكون إلا سكين المطبخ وبندقية صنعها بعظام الشهداء الذين سبقوه على طريق ذات الشوكة، لكنهم يملكون اليقين بوعد الله.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾... ها قد جاء، وها هي الوجوه تُساء... ويكفي.
وفي قلب هذه المحرقة، يتجلى السقوط الأخلاقي الكامل لعصابات الإبادة الصهيونية، التي تجاوزت كل خطوط الإجرام في تعاملها مع الأسرى، ومع المدنيين من أطفال ونساء وعجائز. لا يكتفون بقتلهم، بل يحرقونهم ويشوّهون جثثهم، ويقصفون المستشفيات والمساجد والمدارس ومراكز الإيواء، ويقطعون الكهرباء والماء، ويمنعون الغذاء والدواء، ويجعلون من التجويع أداة حرب حتى الموت.
إنها ممارسات إبادة جماعية مكتملة الأركان، تستند إلى عقيدة عنصرية مريضة، ترى في الفلسطينيين "حيوانات بشرية"، كما صرّح كبيرهم علنًا، بل وتعتبر كل غير يهودي "جوييم" أدنى منزلة، لا يستحق الحياة.
ولم تقف جرائمهم عند الميدان، بل امتدت إلى زنازين التعذيب، حيث تُنتهك حقوق الأسرى بشكل ممنهج حد القتل: عزلٌ انفرادي طويل، تعذيبٌ جسدي ونفسي، حرمانٌ من العلاج، واعتقال أطفال ونساء بلا تهم أو محاكمات، حتى غدا اسم "سجن سيدي تيمان" مرادفًا للسقوط القيمي والأخلاقي والإنساني. كل ذلك موثّق من قِبَل منظمات حقوقية عالمية، ما دفع أصواتًا كثيرة إلى المطالبة بمقاضاة قادة الكيان كمجرمي حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن سقطت آخر أوراق التجميل.
ومع تعاظم الجرائم، لم يترك الاحتلال للصمت مبررًا، فخرج الرأي العام العالمي، وخاصة في قلب الغرب وأمريكا، منددًا ومحتجًا، يهتف في المسيرات المليونية وفي كبرى الحفلات الجماهيرية بالموت لعصابات الإبادة، التي غدت منبوذةً إنسانيًا وأخلاقيًا وسياسيًا. رُفعت راية فلسطين في وجه الباطل، وكُشف زيف الرواية الصهيونية، واتسع الوعي العالمي لصالح غزة، حتى من داخل دول تموّل القتل وتغطيه
لقد هُزمت "إسرائيل" أخلاقيًا وسياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا؛ تهاوت صورتها في الرأي العام، وخسرت وزنها الاستراتيجي كأداة وظيفية غربية، وهي في طريقها إلى فقدان الشرعية الوجودية، خاصة بعد أن بدأت تتصدع داخليًا. اليوم، تُحاكم قضائيًا، وتُطارد في المحافل الحقوقية، وتسقط إعلاميًا تحت ضربات الوعي الشعبي والعدسة الكاشفة لجرائمها.
في المقابل، برزت المقاومة الفلسطينية كنموذج نادر في الحروب، ليس فقط بقوتها الميدانية، بل بأخلاقها خاصة في التعامل مع الأسرى، إذ التزمت بقدر معتبر من المعايير الإنسانية والقوانين الدولية، في ظل حصار وتجويع وتدمير. فبينما تنتهك "إسرائيل" كل المواثيق، وتعذب الأطفال والنساء وتغتال الأسرى بالإهمال الطبي والعزل، حافظت المقاومة على كرامة الإنسان حتى في زمن القتال، ما رسّخ صورتها كحركة تحرر لا مجرد فصيل عسكري.
وإن أصرّت الأحزاب والأمم على دعم الإفساد، فإن تتبير العلو لا يستثني أحدًا، فالله وعد ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: 8]، و﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ [الكهف: 59].
إنها لحظة فاصلة في التاريخ، يختبر الله فيها إيمان عباده، ويمحص الذين آمنوا، ويمحق الكافرين.
أما آن لأمريكا أن تفهم أن شمس إمبراطوريتها بدأت بالأفول؟
أما آن للأنظمة الوظيفية أن تراجع ذواتها؟
أما آن للعالم أن يرى ما تراه غزة من نور الوعد الرباني في قلب النار؟
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ﴾ [يوسف: 21].
﴿لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ﴾... وتستمر الملحمة، ويقترب وعد الله:
﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: 7].
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: 4].
﴿نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: 13].

