فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

﴿*وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾*
(يوسف: 22)

أطفال غزة لم يعرفوا الطفولة كما عرفها العالم، كأنهم وُلدوا كبارًا في زمن الطغيان والدمار. نساؤها جبال من الصبر، رجالها حملة هموم فاقت أعمارهم، ومكانها... مدرسة قاسية تصوغ أرواح الأجيال على نار المحن، يوماً بعد يوم.

هنا، تنمو المناعة من بين الركام، ويُصقل العزم وسط الحرائق. هنا، حيث يكبر القلب قبل الجسد، ويتفتّح الوعي قبل أن يتعلم النطق. في غزة، لا يُترك للبراءة وقت كافٍ، ولا يُمهل الحلم أن يتمدد؛ لكنها رغم كل شيء، تظل تقول بصوتٍ عنيد: "رغم الألم، نحن باقون."
وإن أردت أن تفهم كيف صار الصغار كبارًا قبل أوانهم، فانظر إلى سياق الزمان والمكان: 76 سنة من النكبة والتهجير واللجوء ومن احتلال يطحن الأرض والإنسان، ومسلسل لا ينتهي من الحروب والحصار. لكن محرقة غزة المستمرة، التي لم تنتهِ بعد منذ سنتين، كانت الأعنف والأطول والأكثر إيلامًا. قصفٌ لا يهدأ، ومجازر تتكرر، ونزوح مستمر، واقتصاد منهك، وطفولة تُسحق تحت أنقاض البيوت.
ولم يكن ما حدث مجرد دمار حجارة ولا حصار أرواح، بل كانت المجزرة بحق الطفولة هي الأعنف في ذاكرة هذا العصر. أكثر من 18 ألف طفل شهيد، بعضهم لم يُعرف له اسم، وبعضهم لم يُستخرج له جسد، وبعضهم استشهد ولم تُكمل له صورة.

سالت دماؤهم في الممرات، وناموا تحت الركام، وبقيت ألعابهم شاهدة على الطفولة المسفوكة. هؤلاء لم يكونوا أرقامًا في بيان، بل كانوا آيات حيّة على أن العدل غائب، وأن الصمت قاتل، وأن غزة وحدها تدفع فاتورة الإنسانية عن العالم كله.

كانوا يمشون إلى المدرسة فعادوا في أكفان، أو يلعبون في الحي فاختطفهم الصاروخ، لكن الله شهِد، والسماء كتبت أسماءهم في سجل الخلود.
﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾ (آل عمران: 140)
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾ (آل عمران: 169)
كانوا الشهداء، وكانوا الشاهدين علينا.
أبنائي – مثل كثير من أبناء غزة – لم أعرفهم يومًا أطفالًا. كما لم أكن يومًا طفلًا بدوري. لقد تسلّلت المسؤولية إلينا مبكرًا، تسبقها قسوة الفرص الضيقة، وسوق العمل الشائك، والمخاطر التي تلاحق حتى من يحمل شهادة ومهارة.

ألعاب صغارنا لم تكن دُمى ناعمة، بل خشونة تُصاحبهم فيها صورة البندقية؛ هي أرجوحتهم، وهي لعبتهم، وهي ظلهم الطويل. هم يكبرون بسرعة، يقطعون أشواط الحياة في أيامها الأولى، وتُصهرهم التجارب في قالب الصمود والجلَد. جيلٌ حُسم أمره، لا ينتظر مرحلة نضج، لأنه وُلد في أتونها.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ لقد بلغوا الأشد، وإن لم يبلغوا السن.
هم الآن علماء بالقهر، حكماء في الخسارة، أقوياء في وجه العالم، مجاهدون في ساحة الحياة، لا يعرفون إلا الاجتهاد والمصابرة والرباط.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200)
إن غزة، بكل ما فيها، باتت بمقام دولة عظمى. رأس حربة للخير في هذا العالم المقلوب. يتآمر عليها محور الشر مجتمعًا، فلا تهتز لها شعرة، ولا تنكسر لها إرادة.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ (يوسف: 21–22)

فمن غزة يبدأ ضوء الفجر،
ومن صغارها الذين لم يكونوا يوماً صغارًا تُكتب ملاحم الكبار.