فلسطين أون لاين

#رسالة_قرآنية_من_محرقة_غزة

﴿*وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾

غزة تُعيد تعريف النصر

في زمنٍ عزَّ فيه الوفاء للحق، وارتبكت فيه البوصلة، خرجت غزة من تحت الركام لا لتطلب الحياة، بل لتمنحها معناها. لم تكن معركة غزة مجرد صراع عسكري، بل كانت ملحمة من نور وسط الظلمة، ترسم على جدران النار قصيدة اسمها الحرية. هناك، حيث ظن العدو أنه يحاصر شعبًا، فإذا به يوقظ أمة. في غزة، تقاتل النساء والرجال بصبرهم، ويكتب الأطفال بدموعهم مستقبلًا لا تقدر عليه الجيوش. هناك، تتكسر أساطير "الجيش الذي لا يُقهر"، وتتزلزل قواعد الاحتلال تحت ضربات الإرادة الصلبة. في غزة، لا يُقاس النصر بالأرض التي احتُلّت أو بالصواريخ التي أُطلقت، بل بكرامة تُنتزع من بين أنياب الحصار، وبوعد إلهي يسري في قلوب المستضعفين: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾. هي ليست مجرد مدينة تقاوم، بل معراج الروح إلى اليقين، ودليل التاريخ على أن الأمم لا تنهزم ما دامت تملك إرادةً لا تُقهر، وراية لا تنحني.

في زمنٍ تتقاطع فيه الدماء مع الخرائط، وتُوزن فيه الكرامة بموازين المصالح، تنهض غزة من تحت الركام لا لتتوسل نصرًا، بل لتكتبه بدمها. في مشهد تتراجع فيه المبادئ أمام صفقات السياسة، تقف غزة وحدها، كما لو كانت آخر حراس المعنى، تُعيد تعريف النصر، وتنتزع له مقامًا لا يُشترى في أسواق التسوية.

معركة غزة لم تكن معركة النصر الكامل، بل معركة الضرورة، خيضت في زمن الحصار والظلام والنزوح، لكنها أثمرت واقعًا جديدًا يتحدى كل التوقعات، يؤكد أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بدماء الأحرار وصبرهم. في حروب التحرر، لا يُقاس النصر بحجم الأرض ولا بعدد الضحايا، بل بعمق الوعي الوطني وبقاء الشعلة الثورية. كما قال المفكرون الثوريون، النصر الحقيقي يكمن في بقاء الحركة، وفي القدرة على بناء مشروع سياسي ينبض بإرادة الجماهير. وغزة كانت وما زالت مشروعًا من لحم ودم، لا يتوقف.

ما تحقق، ولادة ملحمة ثباتٍ وصمود. غزة أزاحت قواعد اللعب القديمة، وهزّت أركان السياسة الإقليمية والدولية. في وجه جيوش الطغيان، وآلة الإبادة، وصمت العالم، قررت غزة أن تكتب مصيرها بيدها، وأن تكون الطلقة الأولى في بندقية الأمة، والسطر الأخير في معاهدة الذل.

المقاومة لم تملك إلا الإرادة، لكنها كسرت عقيدة الحسم، وأجبرت الاحتلال على إعادة حساباته. وصل طوفانها إلى العمق، وفرضت قواعد اشتباك جديدة، وأظهرت أن إرادة الشعوب لا تُهزم. فشل الاحتلال في تحقيق أيٍّ من أهدافه: لم يُسقط غزة، لم يُنهِ المقاومة، لم يُعيد هيبة جيشه. بل كشفت المعركة هشاشة بنيانه، وهزّت ثقته بذاته، وتحوّلت غزة إلى مدرسة للمقاومة الشاملة.

على صعيد الداخل الصهيوني، يعيش الاحتلال أزمة وجود. الانقسامات السياسية، الاستقالات، تراجع الثقة بالمؤسسات، وموجات الهجرة إلى الخارج كلها مظاهر تصدع داخلي عميق. بات واضحًا أن الخطر على الكيان لم يعد فقط من خارج حدوده، بل من داخله، حيث يتآكل الإيمان بسرديته، وتضعف رواية "الجيش الذي لا يُقهر". يقف النتن ياهو، المتهم بالفشل، على حافة هزيمة سياسية، تحاصره فضائح الداخل وتصدّعات الخارج، في انتظار صفقة قد تمنحه تأجيلًا مؤقتًا للسقوط.

على الجبهة الدولية، أعادت غزة إشعال جذوة التضامن، من الشوارع إلى الجامعات، من وسائل الإعلام إلى المنابر الدبلوماسية. كُشف القناع عن الرواية الصهيونية، وسقطت منظومة التعتيم، وارتفع الصوت الفلسطيني في كل العالم. كانت معركة وعي لا تقل أهمية عن معركة المدفع، ونجحت غزة فيها بتفوق، إذ دفعت بالرأي العام العالمي إلى إعادة النظر، وجعلت من القضية الفلسطينية مرة أخرى بوصلة أخلاقية للشعوب.

أما في الجبهة الفلسطينية الداخلية، فقد شكّلت غزة نقطة التقاء للكل الفلسطيني: من الضفة إلى الداخل، من الشتات إلى القدس. تجسدت وحدة الشعب في وجه المحنة، ورفضت الانقسام، وأعادت الاعتبار للثوابت الوطنية. برز جيل جديد من الشباب يحمل الوعي، ويؤمن بأن التحرير لا يأتي إلا بالصبر والمقاومة. فكانت غزة إعادة ولادة لمشروع التحرير وللهوية الوطنية.

وفي المشهد الإنساني، برزت غزة كصورة ملحمية للتضامن. النساء والشباب والإعلاميون والمقاومون، كلهم وقفوا في الصف ذاته، يرسمون مشهدًا من البطولة. الإعلام المقاوم فضح جرائم الاحتلال، وحشد التأييد، وأسقط الرواية الصهيونية العنصرية. ومن بين الدمار، وُلدت قصص الأمل، التي حملت إلى العالم رسالة: نحن لا نموت، نحن نُقاوم.

هذا الانتصار يتعدى المعركة، ليمسّ الجوهر الروحي للأمة. كما انتصر النبي في الهجرة رغم المطاردة، وكما كان صلح الحديبية فتحًا عظيمًا رغم ظاهره، كذلك غزة. هي المعركة التي تُشبه الهزيمة، لكنها تُمهّد للنصر. لأن الانتصار الحقيقي ليس في المظهر، بل في الأثر. في إعادة بناء الوعي، في استمرار المقاومة، في استنهاض الأمة.

غزة لم تكن فقط ساحة للقتال، بل كانت منبرًا للكرامة. لم تطلب شيئًا من أحد، لكنها أعطت دروسًا للعالم. أعادت تعريف النصر: هو أن تصمد، أن تظل حرًّا، أن تزرع الأمل في زمن التيه.

وهكذا، تمضي غزة في دربها الصعب، محمّلةً بدم الشهداء، وإصرار المقاومين، وأمل الأطفال، لتُكمل فصول الحكاية التي لن تنتهي، ما دامت هناك أمة تنبض بالكرامة، وما دام وعد الله قائماً: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾، ولتبقى غزة عنوانًا لقول الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾.

المصدر / فلسطين أون لاين