منذ تأسيسها عام 1948، قامت (إسرائيل) على وعدين أساسيين: أن تكون "الوطن الآمن" ليهود العالم، و"الملاذ الأخير" الذي يحميهم مما تسمى "معاداة السامية"، لكن الواقع اليوم بات مختلفًا، إذ تشهد (إسرائيل) موجة هجرة معاكسة غير مسبوقة، حيث يغادر آلاف اليهود الصهاينة من مدن الداخل المحتل عبر البحر والمعابر البرية، هربًا من شعور متزايد بالخوف وفقدان الثقة بالدولة وقدرتها على حمايتهم.
هذه الظاهرة المتسارعة منذ عملية " طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، ثم اندلاع المواجهة مع إيران، تعكس أزمة عميقة في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وتشكّل جرس إنذار وجودي ينبئ بتصدع أسس المشروع الصهيوني، الذي لم يعد يضمن لسكانه الأمان والاستقرار الذي وُعِدوا به.
وفي مشهد يحمل دلالات عميقة، وثّقته صحيفة "هآرتس"، يتجمّع إسرائيليون فجرًا على ميناء هرتسليا المطل على البحر المتوسط، بانتظار اليخوت التي تقلّهم إلى قبرص، ومنها إلى مدن أوروبية. تتفاوت أسعار الهروب بين 2500 و6500 شيكل، حسب نوع القارب وسرعته، لكن القاسم المشترك هو الرغبة في الخروج من إسرائيل بأي وسيلة.
في الوقت نفسه، تشهد معابر برية مثل طابا المصري ازدحامًا كبيرًا، رغم تحذيرات إسرائيلية من السفر البري في هذه الفترة، في حين أمرت وزيرة النقل ميري ريغيف شركات الطيران بعدم إخراج الإسرائيليين من البلاد، ومحاولة إعادة من هم في الخارج، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة يائسة لضبط نزيف داخلي صامت.
الوعد الصهيوني يتآكل
يرى المختص في الشأن الإسرائيلي عزام أبو العدس، أن ما يحدث اليوم يعكس انهيار الأسس التي قامت عليها الدولة العبرية، موضحًا أن "(إسرائيل) تأسست على وعدين: وعد الأمن، بأن تجلب كل يهود العالم الذين طُردوا بسبب ما يسمى ب "معاداة السامية" و"الهولوكوست" إلى مكان يكونون فيه أمان، ووعد الرخاء، بأن تنقذهم من معازل الجيتو والتمييز العنصري إلى دولة يعيشون فيها برخاء اقتصادي".
لكن هذين الوعدين تآكلا بشكل كبير جداً، بحسب أبو العدس، منذ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، وتفاقم التآكل بشكل هائل مع بدء الحرب مع إيرانً، وبالتالي نحن أمام حالة هجرة معاكسة في (إسرائيل).
ويضيف أبو العدس أن "إغلاق المطارات ومنع السفر، مع توجيه شركات الطيران بعدم إخراج الإسرائيليين، تزامن مع مشاهد هروب بحرية من (إسرائيل) ومصر باتجاه قبرص، بل ولجوء بعضهم إلى مطار العريش كنقطة عبور إلى أوروبا، في مشهد يعكس انهيار الثقة لدى قطاعات من الإسرائيليين".
وبحسب إحصائيات غير رسمية، أشار إليها أبو العدس، فقد غادر نحو 700 ألف إسرائيلي الكيان بشكل دائم أو مؤقت منذ اندلاع الحرب، في حين سُجّلت حالات متزايدة من التنازل عن الجنسية الإسرائيلية.
وخلص أن هذه الظاهرة تمثل ضربة قاسية للمشروع الصهيوني الذي أراد أن تكون إسرائيل "ملاذًا آمنًا" لكل يهود العالم، لكن الواقع يشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية باتت تحتضن التجمع اليهودي الأكبر عالميًا بعدد يُقدّر بـ5.7 مليون يهودي، أي أن نحو 42% من يهود العالم لم يهاجروا إلى (إسرائيل) رغم مرور 75 عامًا على تأسيسها، بل ويعيشون خارجها".
الهروب بدل العودة
وإن كانت الأزمات السابقة تدفع بعض الإسرائيليين في الخارج للعودة، شعورًا منهم بأن الكيان في خطر، فإن الحال الآن انعكست تمامًا، هذا ما يقوله الخبير في الشأن الإسرائيلي علاء إغبارية.
ويقول إغبارية: "الإسرائيليون باتوا ينتظرون من يشق بهم البحر بعصا موسى للهروب من هذه الدولة"، مشيرًا إلى أن الهجرة المتزايدة في أوساط الإسرائيليين خلال هذه الحرب تعكس تحولًا في معادلة العلاقة بين المواطنين والدولة، بعد أن كانت الأزمات في السابق تقابل بمزيد من التماسك الداخلي، فإننا اليوم أمام أزمة حقيقية".
ويتابع: "هذه الهجرة تعكس أزمة ثقة بين الإسرائيليين والدولة والمؤسسة العسكرية، حيث أن هناك شعور عميق لدى الشارع الإسرائيلي بأن الدولة غير قادرة على حمايتهم، وهذا بات يتغلغل ليس فقط لدى الطبقات الاجتماعية المتوسطة، بل إن النخب الاقتصادية بدأت تفكر في نقل أعمالها ومصالحها إلى خارج (إسرائيل)، وهو مؤشر خطير جدا من ناحية اقتصادية واجتماعية".
ويعتبر إغبارية أن ما يجري غير مسبوق: "في الأزمات السابقة، كانت (إسرائيل) ترسل طائرات لإعادة العالقين، أما الآن فالمشهد معكوس: هناك آلاف يغادرون عبر البر والبحر، ويُفضلون الخروج حتى عبر معابر مثل طابا، التي كانت يومًا وجهة سياحية وأصبحت اليوم ممرًا للهجرة".
ويؤكد أن "هذه الحرب باتت عبئًا ثقيلًا جدًا على الشارع الإسرائيلي، وأنه يوجد لديه مخرج، مع استمرار سقوط الصواريخ، وفشل منظومات الدفاع الجوي في التصدي".
ويضيف: "السؤال المطروح اليوم في (إسرائيل) هو: هل يمكن للدولة استعادة ثقة الجمهور؟ وهذا سؤال وجودي محرج للغاية لحكومة نتنياهو، التي تواجه قلقًا داخليًا، وشللًا سياسيًا، وخوفًا من حرب استنزاف طويلة".
ويشدد إغبارية، على أن الكيان يشهد تصدعًا في الثقة بالحكومة، وزيادة الهجرة تخلق بلبلة في معسكر اليمين، بل وحتى انقسامًا حول الحرب ذاتها. بمعنى آخر، (إسرائيل) تدخل في "حرب نفسية داخلية". ويردف، الحكومة تقول للناس: لا داعي للهلع والخوف، لكن الناس تهرب وتقول ببساطة: عندما أخرج من هذه الدولة، أشعر أنني في أمان. هذا هو آخر ما كان بنيامين نتنياهو يريد رؤيته: "هجرة من الداخل".

