في غرفة واحدة داخل أحد المستشفيات، تتوسط الأم نسرين ماضي (42 عامًا) ابنتيها رهف وسيلا، ترقد كل واحدة منهن على سرير منفرد بأوجاع مختلفة، وبتر طال أطرافهن جميعًا.
تكتم الأم أوجاعها، تحاول أن تخفف من الآلام النفسية لطفلتها الصغيرة بعد بتر قدميها، تمسك بيدها، وتبحث عن الأمل في عيني ابنتيها، رغم أن الألم أقوى من أن يُخيطه الرجاء.
الطفلة سيلا (8 سنوات)، خضعت لبتر فوق بتر، بعد أن تمددت الالتهابات إلى منطقة الحوض، نتيجة ضعف الإمكانيات الطبية ونقص الأدوية والمضادات الحيوية.
تشتعل الحمى في جسدها، فيما تواجه ساقها اليسرى خطر البتر حتى الحوض، ما قد يصعّب عليها الجلوس مستقبلاً حتى على كرسي متحرك.
في ليلة هادئة يلفها الصمت، وتحديدًا عند الساعة 11 مساءً من يوم 17 مايو/ أيار 2025، كانت العائلة تغط في نومها داخل خيمة نزحوا إليها في منطقة المواصي، المكان الذي قيل إنه "آمن".
لكن الأمان انفجر على رؤوسهم حين سقط صاروخ على خيمة مجاورة، فأُصيبت العائلة بكارثةٍ لم تكن بالحسبان.
قُذفت سيلا مسافة تقارب العشرين مترًا عن خيمتها، وفقدت قدمها اليمنى من حافة الحوض لحظة القصف، ثم خضعت لبتر قدمها اليسرى فوق الركبة بعد خمسة أيام بسبب التهتك، ولا تزال تعاني من الالتهابات وأوجاع لا تنتهي.
أما شقيقتها رهف (17 عامًا)، فقد بُترت قدمها اليسرى بفعل شظايا الصاروخ، وتستقر شظايا أخرى داخل ساقها، مع التهاب وانتفاخ بمنطقة البتر.
تحمل بداية شبابها على قدم واحدة، تحاول أن تخيط الوجع بخيوط الأمل، لكنها لا تخفي خيبتها.
الأم نسرين بدت أقل إصابة من ابنتيها، إذ طال البتر إصبع يدها اليسرى وجزءًا من كعب قدمها اليسرى، لكنها لا تزال مهددة ببتر كامل للقدم. ويحاول الأطباء إنقاذ ما تبقى من عظام الكعب عبر إجراء ترقيع تجميلي.
"رِجلين بناتي راحوا"
تقول رهف لصحيفة "فلسطين"، بصوتٍ مكسورٍ تغلب عليه الدموع: "في تلك الليلة، كنا عائلة بسيطة نعيش يومًا عاديًا، تناولنا العشاء وذهبنا للنوم. سيلا نامت بجانبي. فجأة سمعت صوت انفجار، لم أستوعب ما حدث، فقط سمعت أمي تصرخ: رجليّن بناتي راحوا! شعرت بنزيف شديد ونُقلت للمشفى."
تضيف: "استيقظت بعد العملية الجراحية وطلبت من الطبيب أن أرَى قدمي، شعرت بشيء غير طبيعي، كنت أستطيع تحريك قدم واحدة بينما الأخرى لا أشعر بها. حينها قال الطبيب: بنفعش أفرجيك إياها هسه، ففهمت أنني فقدت قدمي."
كانت سيلا ترقد على السرير المجاور خلف ستارة، ولم تكن رهف تعلم ذلك إلا حين سمعتها تصرخ: "وين رجلي؟"، فحاول الطبيب تهدئتها قائلاً: "رجلك نايمة".
تقول رهف: "في تلك اللحظة تأكدت أن أختي مبتورة القدم أيضًا. صدمة فوق صدمة، تشتتنا كعائلة، إخوتي الأربعة الناجون يعيشون مع الأقارب، ونحن في المستشفى، ولا نعلم ما سيؤول إليه حال أمي."
لم يتوقف الألم عند حد البتر، بل تصف رهف ما يعرف بـ"كهرباء الجرح": "بكاء وألم لا تسكّنه أي أدوية. كنت أستعد لتقديم امتحانات الثانوية العامة، حلمت أن أكمل دراستي وأسافر، لكن الآن، أحاول فقط التعافي. العضلة الضامة بمنطقة البتر قصيرة، وهذا يعيق تركيب الطرف الصناعي".
سيلا.. ألم مزدوج وجسد ناقص
أما سيلا، الطفلة الذكية التي عُرفت بحبها للقراءة وتجويد القرآن والركض، فقد وجدت نفسها بلا قدمين، وعليها التكيف مع جسد ناقص.
تقول رهف عن شقيقتها: "شظايا في ظهرها تمنعها من النوم، منذ خمسة أيام لم تغمض عينيها من الألم. المسكنات مفقودة، والعلاج ضئيل. ورغم صغر سنها، تُسأل كثيرًا عن قدميها، لكنها لا تتلقى سوى الصمت."
نزحت العائلة من محافظة رفح إلى قيزان النجار، ثم إلى منطقة "فش فرش" في مواصي خان يونس، والتي صُنّفت "آمنة"، لكنها كانت واحدة من أكثر المناطق التي شهدت مجازر دموية.
يقول خال الطفلة، أحمد ماضي، الذي يرافقها في مستشفى تديره منظمة "أطباء بلا حدود" في الزوايدة:
"سيلا كانت تحلم أن تصبح مهندسة، لكنها اليوم بلا قدمين. في الأيام الأولى كانت ترفض مقابلة أحد، تُغطي وجهها فور دخول الطبيب، تعيش حالة نفسية صعبة للغاية."
يُضيف بأسى: "بدأت تتقبل واقعها بعد بدء جلسات العلاج الطبيعي. طلبت مني ذات يوم أن أشتري لها حذاء، لم أستطع الرد. وفي مرة أخرى، قالت لي: هيني بحرك أصابعي.. وين ودّيتوا رجلي؟".
كون البتر امتد إلى حافة الحوض، تجد سيلا صعوبة في الجلوس على كرسي متحرك، ويُضطر الطاقم الطبي إلى ربطها لمنع سقوطها، فيما تستمر الالتهابات في قدمها الأخرى.
ثلاث ضحايا في خيمة احترقت
سيلا، رهف، وأمهن نسرين.. كنّ داخل خيمة إيواء حين أسقطت طائرة حربية إسرائيلية صاروخًا مزّق أجسادهن في لحظات، كما مزق الخيام التي وُصفت بأنها "ملاجئ آمنة".
ثلاث ضحايا لا يزال الألم يسكن تفاصيل يومهن.
أجساد مبتورة، ومستقبل غامض، وآلام لا تهدأ، وأحلام سُرقت في لحظة نومٍ داخل خيمة.
هكذا تحوّل النزوح من قذائف إلى نار تقطع الأطراف، وتترك خلفها عائلات مدمّرة تبحث عن معنى جديد للحياة.

