لو أن حضرة السيد بلفور وعد السعودية باليمن، أو وعد مصر بالسودان، أو وعد الصين باليابان؛ فهل يا ترى سيجري وعده جريان وعده للصهاينة بفلسطين؟، المسألة فيها نظر، ونحن في عصر الهزيمة والتخلف الفكري تعودنا مسك المعادلة من أحد طرفيها، ونكفي أنفسنا عناء النظر إلى الطرف الثاني من المعادلة، لأنه بالفعل متعب وله تكاليفه، ونحن لا نريد دفع هذه التكاليف، لذلك نكتفي بالعويل والندب، وتعليق الأمر على حائط مبكى، أو عنوان من العناوين التي تلهب المشاعر، وتبعدنا عن إعمال العقل والتفكير الموضوعي، ومعرفة الأسباب، والتشخيص الدقيق الذي يقودنا إلى المعالجات العملية لما آلت إليه الأمور.
وقد تحدث المفكر الجزائري قديمًا عن قابلية الاستعمار، وبالفعل كان الاستعمار يدرس حال البلد الذي يريد استعماره قبل أن يقدم على ذلك، فإذا كان في حالة من القوة والمنعة، ولديه من مقومات الصمود والتحدي وجعل كلفة الاستعمار عالية؛ فإنه يذهب إلى البحث عن غيره من تتوافر لديهم القابلية.
الآن لندرس ما كنا عليه قبيل وعد بلفور وما كانوا هم عليه، هذا مهم لوصف العلاج نهاية الأمر، كيف كانت شوكتنا وقوتنا العسكرية والاقتصادية (وهما عماد الصمود لأية أمة)؟، وكيف كانت منهجية التفكير لدينا؟، هل كنا نملك نهضة فكرية قادرة على إقامة بنيان مجتمع قوي سياسيًّا واقتصاديًّا، إذ إن الثانية نتاج للأولى؟، كيف كان التعليم عندنا وثقافة المجتمع وقيمه؟، هل كان مجتمعًا متماسكًا اجتماعيًّا، وفيه من تجديد الطاقة البشرية وإنتاجها لدائرة الفعل ما يكفي لمواجهة المخاطر والتحديات؟، كيف كانت أحوال القيادة وقدرتها على إدارة الموارد وتطويرها وتجهيزها للتنمية داخليًّا ولمواجهة المخاطر الخارجية؟، هل كان هناك تخطيط أو بناء للخطط القادرة على مواجهة تحديات تلك المرحلة أم أن الارتجال والعفوية وردود الأفعال العاطفية والتنازع والتفرق كانت هي سيد الموقف؟
إذًا لم يكن بأي حال من الأحوال لبلفور أن يعد ما وعد به إلا وهو دارس حقيقة أحوالنا التي كانت جاهزة لما يريد، لقد كانت إرادتهم جاهزة للفعل، ولإنتاج ما يريدون، على وفق منهجية وخطة، وحشد لإمكاناتهم بطريقة صحيحة وفعالة، ولم يكن الوعد إلا صافرة الانطلاق، في حين نحن كنا على العكس تمامًا جاهزين لإنفاذ الوعد فينا.
واليوم هل درسنا عوامل قوتنا وعوامل ضعفنا لننظر لم نحن جاهزون؟، هل ما زال أمثال بلفور قادرين على إطلاق وعودهم أم أن الأمر تغير؟، هذه الأيام ترامب الرئيس الأمريكي الحالي يعد بصفقة القرن، يعد وهو على علاقة مؤكدة ووثيقة بالكيان الصهيوني، وفي الوقت نفسه هو يعلم علم اليقين أن العرب جاهزون لما يحب ويرضى، لا يملكون مخالفته ولا يفكرون بعزة ولا كرامة، وهم ليتهم متفرقون فحسب، وإنما يكيد بعضهم لبعض، وعلى استعداد لبقاء بركة العلاقة بأمريكا أن يتقربوا إلى الكيان العبري زلفى ويكسبوا وده بأي ثمن.
لابد من تشخيص الحال بدقة وموضوعية، ونحن نستذكر وعد بلفور بعد مائة عام، هل تخلصنا من "البلفرة"؟، (أقصد قابليتنا لإنفاذ وعود فينا مثل وعد بلفور)، ماذا عن الوعود الجديدة التي ما زالت تدهمنا بين الحين والآخر؟، كونداليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة للولايات المتحدة الأمريكية وعدت بالفوضى الخلاقة ونفذت وعدها فينا، بوش الابن قال: "إن من ليس معنا فهو ضدنا" في حربه على "الإرهاب"، وتهافت العرب ليثبتوا ولاءاتهم لأمريكا، وأنهم معها قلبًا وقالبًا روحيًّا وماديًّا، ولها من الأمر فيهم ما يريدون.
فالمشكلة إذًا في الطرف الثاني من المعادلة؛ فالبلفرة أشد وأنكى من النظر إلى من يطلق وعده ووعيده، ماذا أعددنا نحن؟!، وهل ما زلنا غير قادرين على الرد وإرجاع الوعد إلى نحر صاحبه؟!، أوضاعنا كلها بحاجة إلى دراسة وإعادة صياغة، وأهمها منهجية التفكير، وطرق إدارة الصراع، وتماسك الجبهة الداخلية لتصبح كالبنيان المرصوص، مدركة تمامًا أبعاد الصراع وتحدياته.