﴿لِلفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذينَ أُخرِجوا مِن دِيارِهِم وَأَموالِهِم﴾
ها هي نكبة غزة تتجدد في ذكرى نكبة فلسطين، لكن هذه المرة بنكسة أشد قسوة، نكبة لا تُحصى أيامها ولا تُعدّ ساعاتها، نكبة غزة المحروقة التي تئن من وَرْيد إلى وَرِيد، حيث الترحال القسري صار قدرًا ومصيرًا، من خرائب البيت إلى خيمة اللجوء المشتعلة، تحت وابل الصواريخ وأزيز الموت، يهرع الفلسطيني المنكوب يجرّ خلفه آلامه وأحبابه الذين رحلوا شهداء، أو من غدر بهم الأسر والجرح، فلا يجد له مأوى إلا بقايا بيتٍ محطم، أو غرفة ضيقة تشهد على مرارة التهجير والحرمان. لكن وسط هذا الطوفان من الدم والدمار، يُنبت الصبر في صدور الأبطال، كغذاء لا ينضب ودواء لا يزول، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، فترتفع الأكف إلى الله، ملؤها رجاء وثقة، تُناجي الرحمن عز وجل، مستلهمة وعد نبيها: "لا يضرهم من خذلهم ولا ما أصابهم"، حتى حين يُحاصرون بالخذلان، ويصمت العالم عن نداءاتهم، تظل غزة شامخة، تصرخ بالحق، تحمل لواء الصمود والتحدي، تحيا بنار الإيمان، وتمضي رغم الجراح، وتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
تزامنت نكبة غزة مع إحياء ذكرى نكبة فلسطين في منتصف مايو 2025، ولكن على غير ما ألفناه، حيث كان المعتاد أن تحمل الفعاليات رسالة تجديد الوعي بحق العودة، فإذا بها تأتي هذا العام بنكبة جديدة، أشد قسوة وأقسى قمعًا، نكبة يومية نحياها في غزة المحروقة والمصلوبة قتلًا من الوريد إلى الوريد. حيث أصبح الترحال القسري رفيقًا لنا في أيام وليالي المحرقة القاسية، مع تهجير إجباري إلى أماكن بزعم أنه "آمن"، ثم ملاحقة الصواريخ والقتل على الطرقات، وفي خيام اللجوء، حيث أُحرقت المهجّرين مع خيامهم وفي سيارات نقلهم.
وها نحن ننتقل مرارًا وتكرارًا بين الأماكن، من مراكز النزوح إلى المدارس، ومن الخيام إلى البيوت المدمرة، ليعاد تهجيرنا مع كل عدوان وقتل وتدمير، فيما تسميه عصابات الإبادة "عملية عسكرية" أو "جراحة موضعية". وفي كل مرة، يعاني الفلسطيني المنكوب الفقد، برحيل أسرته وأحبّته شهداء، بينما يعتبر "المحظوظ" منهم من يُكتب له هذا النصيب، خاصةً إذا وُجد من يدفنه. أما سيّئ الحظ فهو ذاك الذي يُؤسر أو يُصاب، ليكابد الموت في كل لحظة، حتى يصل كثير منهم إلى خاتمة الشهادة، فقد قضى كثير من الأسرى نحبهم، واستُشهد العديد من الجرحى بجراحهم، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب: 23).
هذه النكبة المتجددة شديدة الوطأة، إذ لا يجد الفلسطيني مأوى سوى بيت مدمر بلا جدران، أو خيمة لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، أو غرفة مكتظة في مركز نزوح محترق. ولا يملك فراشًا أو أغطية، ولا أيًّا من مقوّمات الحياة، بلا طعام أو ماء أو دواء، ويقضي يومه كله بحثًا عن شربة ماء أو لقمة عيش يقتات بها هو وأطفاله.
لكن الصبر والثبات هو غذاء وماء ودواء غزة، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 3)، ولجوء الفلسطينيين الوحيد هو إلى الله تعالى، {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45)، في وقت تنكر فيه العالم العربي والإسلامي لوجودهم، وصمّ العالم أذنيه وأغلق عينيه، ليتحقق فيهم وعد رسول الله ﷺ في حديث الطائفة المنصورة: "لا يضرهم من خذلهم ولا ما أصابهم"، ويتجسد فيهم دعاء النبي ﷺ:
"اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، إلى من تكلنا؟ إلى بعيدٍ يتجهمنا؟ أم إلى عدوٍّ ملكته أمرنا؟ نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بنا غضبك أو يحلّ علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله."

