(لَبَرَزَ الَّذينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ القَتلُ إِلى مَضاجِعِهِم ) آل عمران154
في وسط الجحيم الذي يشتعل حولك، حيث القصف والدمار يسحق كل شيء، يتناثر غبار الأمل بين رماد الشهداء. في كل لحظة، صوت الطائرات يقصف السماء، تراقب الأسماء على هاتفك، تبحث عن أحباءك بين الشهداء والمفقودين، وأنت تعلم أن كل لحظة قد تكون الأخيرة.
لكن في هذه اللحظات العصيبة، لا يبقى لك سوى التمسك بالقرب من الله، بالصبر والتوكل عليه، بعبادة السجود والدعاء، في انتظار الشهادة التي قد تكون اصطفاءً، وتظل في قلبك نار الأمل والصبر رغم كل شيء. كيف ستعيش لحظتك الأخيرة؟ في سجدتك أم في تلاوة القرآن؟
أن تحيا كل دقيقة وكل لحظة وكل ثانية وكأنها الأخيرة التي تنتهي بها حياة قصيرة بالقصف الذي يسمونه سجادي، والأحزمة النارية التي تضرب كل مكان بلا شفقة، حيث محرقة تشتعل في كل بيت وشارع وزاوية وزقاق. حيث سحقت النار عظام أهل غزة، فغدا كثير منهم غبارًا لا جثمان له، وزاد عدد المفقودين عن العشرة آلاف، فضلًا عن أكثر من أربعين ألف شهيد مسجل وأكثر من مائة ألف جريح لا يجدون المشافي. حيث القتل بالجملة والمجان بزعم شبهة وجود شخص مطلوب في مكان ما، تستحقه القنابل الأمريكية ذات آلاف الأطنان لتقتل مئات الشهداء، جلهم أطفال ونساء.
ويصاحب سماء غزة على مدار اللحظة صوت طائرات الاستطلاع (الزنانة) والطائرات المقاتلة بكافة أنواعها، بصوتها المزلزل قصداً، والصواريخ المقذوفة من كل مكان وعلى مدار اللحظة. ترقب أين مكان الصاروخ، وما هي آثاره، وخبر عن الأحباب والأهل والأقارب والجيران وشعبنا العظيم. فيصلك خبر شهادة أحدهم يضاف إلى قائمة الشهداء، حيث امتلأت قائمة اتصالات هاتفي بأسماء الشهداء الذين لا أحذفهم على مدار عقود، وأشرف ببقاء ذكراهم معي. وأصبح الانتظار لوقت للتدقيق هل الاسم الذي أمامي شهيد أم على قيد الحياة أم لا أعلم أخباره بعد؟
الشهادة اصطفاء: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} آل عمران 140. كم من مقاتل كان في عقدته القتالية تحت القصف وأحزمة النار على مدار اللحظة، عاد إلى بيته سالماً فوجد أن أهله قد ارتقوا جميعًا شهداء، وهم يظنون أنهم في المكان الأكثر أمانًا، وبقي هو الناجي الوحيد. وكم من عائلة خرجت من شمال غزة إلى الجنوب بحثًا عن الأمن المزعوم السراب، ارتقوا شهداء بعيدًا عن بيتهم، وهم فيما يظنون في منطقة آمنة كما زعمت عصابات الإبادة. نعم، إنها مشيئة الله الغلابة، لا فرار من الموت، ولو {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} آل عمران 154. أي يومي من الموت أفر؟ بأن تعيش على مدار اللحظة أنها الأخيرة، نعمة القرب من الله تعالى، عبادة الانتظار بالرباط والترقب والتشوق إلى لقاء الله تعالى، متمنيًا أن تتحلل من كل إثم في تجديد دائم للتوبة، وفوق كل ذلك عبادة الصبر: {وَلَنَصْبِرَنَّ} إبراهيم 12، وعبادة التوكل: {فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران 159. وما يصاحب كل ذلك من أجل العبادات الدعاء والابتهال والمسكنة والخشوع لله جل جلاله. إنها لحظات غالية قربى لله عز وجل، فلا تضيعوها ولا ترخصوها بالغفلة.
في كل هذه الأجواء التي يملؤها القتل والدمار، ورائحته تنتشر في كل زقاق في غزة العزة، عليك أن تعيش اللحظة على أنها الدقيقة الأخيرة في حياتك. فكيف ستقضيها؟ ساجدًا، أم تاليًا لكتاب الله، أم متصدقًا إن تيسر، أم عاملاً مجتهدًا لتبقي الأجر بعد الرحيل بـ (علم ينتفع به)؟