تحت سقف غرفة مهترئة مغطاة بالصفيح والقماش الممزق، مطلة على شاطئ بحر غزة، يجلس اللاجئان عبد الناصر حرب وتيسير البردويل، وهما يحملان ذكريات على أكتاف منحنية بفعل سنين الهجرة التي عاشها والداهما إبّان نكبة عام 1948، ونقلاها لأبنائهما قبل رحيلهما عن هذه الدنيا.
وبينما يحدّق حرب، وهو من قرية حمامة المُدمّرة، طويلاً في المياه الزرقاء الممتدة على مدى البصر، يُحيط البردويل، من قرية عسقلان المهجّرة، بنظراته الدمار الكبير والركام المتناثر في شوارع وأزقة مخيم الشاطئ للاجئين غرب غزة، حيث تقطن آلاف العائلات المُهجّرة من الداخل الفلسطيني المحتل.
يحتفظ هذان الرجلان بالكثير من القصص والحكايات عن زمن النكبة الفلسطينية قبل 77 عامًا، رغم أنهما وُلدا وترعرعا في مخيم الشاطئ، لكنهما لم يتوقعا أن يعيشا النكبة من جديد بفعل حرب الإبادة التي بدأها جيش الاحتلال الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وكان مخيم الشاطئ قد تعرض لغارات وضربات جوية عنيفة خلال الحرب، تلاها اجتياح بري موسع ألحق دمارًا هائلًا بمنازله السكنية وبُناه التحتية.
"صحيح أنني وُلدت في غزة بعد سنوات من هجرة عائلتي من قرية حمامة، لكن هذا لا يعني أنني لا أعرف شيئًا عن قريتي، فقلبي معلّق بها"، قال حرب (65 عامًا) بصوت متهدج، وهو يستند إلى عكاز خشبي.
يحكي هذا المسن أن والده، شعبان حرب، قصّ عليه الكثير من الحكايات حول صمود أهالي قرية حمامة في وجه الاستعمار البريطاني وجرائم "العصابات الصهيونية" في زمن النكبة. "كان البريطانيون يأتون بالمهاجرين اليهود عبر البحر إلى معسكرات للجيش البريطاني."
"داخل هذه المعسكرات تلقّى اليهود التدريب والسلاح. كان هناك موقع عسكري يُدعى (الكوبانية) يقع بين قريتي إسدود وحمامة، انطلقت منه العصابات لتنفيذ جرائمها ومجازرها بحق المواطنين الفلسطينيين"، أضاف حرب لصحيفة "فلسطين"، وبدا أن السنين الطويلة لم تُنسه قريته المدمّرة.
وتابع: "قبل 77 سنة دمّرت (إسرائيل) القرى الفلسطينية وأجبرت أهلها على تركها. وهي تحاول الآن تدمير كل شيء في حياتنا لإجبارنا على ترك منازلنا والهجرة من غزة."
يدرك حرب مدى خطورة حرب الإبادة الإسرائيلية وأهداف الاحتلال من ورائها، لكنه يبدو واعيًا لمواجهتها، ولا يزال يحتفظ بأوراق تُثبت ملكية عائلته لأراضٍ واسعة في حمامة.
وكان والده، شعبان حرب، قد حطت به وبعائلته رحال اللجوء في مخيم الشاطئ، حيث ضاقت الأزقة بالمُهجّرين الذين حملوا قراهم في قلوبهم بعد سلسلة مجازر مروّعة ارتكبتها "العصابات الصهيونية"، ولم يعد بإمكانهم البقاء هناك.
حُلم العودة
"عندما غادر والدي قرية حمامة، كان يتوقع أن يعود إليها بعد أيام أو أسابيع، لكن ذلك لم يتحقق حتى يومنا هذا"، قال حرب، وبدا أسفًا على ما آل إليه حال اللاجئين الفلسطينيين. "الاحتلال يحاول اليوم إعادة نفس المشهد، لكننا لن نترك أرضنا مجددًا."
وتابع: "كبرنا ونحن نحلم بالعودة إلى حمامة. نؤمن أن النكبة مؤقتة، وأن مخيم الشاطئ محطة انتظار فقط."
في الجوار، كان المسن تيسير البردويل يستمع إلى حكايات اللاجئ حرب، وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى الدمار الواسع في مخيم الشاطئ والركام المنتشر في كل مكان.
ينحدر البردويل (65 عامًا) من قرية عسقلان الواقعة داخل أراضي الـ48، على بُعد بضعة كيلومترات من شمال قطاع غزة. حطّت رحال عائلته أيضًا في القطاع بعد مجازر "العصابات الصهيونية".
يحمل هذا الرجل في قلبه كثيرًا من حكايات اللجوء والنزوح التي أخبره بها والده محمد البردويل قبل رحيله، لاسيما نضال الفدائيين في مواجهة الاستعمار البريطاني الذي مهّد الطريق لارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين.
لكنه لم يتوقع يومًا أن يعيش التجربة من جديد. يقول لـ "فلسطين أون لاين": "إن الاحتلال يريد تهجيرنا من جديد، وهذا هو الهدف الأساسي للحرب على غزة."
وكان البردويل، كغيره من سكان قطاع غزة الذين يتجاوز عددهم المليونين ومئتي ألف نسمة، قد نزح داخل القطاع أكثر من مرة، رغم أنه مسن لا يملك القدرة على الركض أو الاحتماء، بفعل العدوان الإسرائيلي وعمليات التوغّل البري الواسعة.
يصف هذا الرجل الحياة اليوم بأنها أصعب مما عاشه آباؤنا وأجدادنا. "رغم الفقر والتشريد، كنا نمتلك أملًا بالعودة. اليوم يحاول الاحتلال إبادة هذا الأمل"، يتوقف لبرهة، قبل أن يضيف: "رأيت أولادي وأحفادي يُهجّرون أمامي. إنها نكبة متجددة لا تنتهي."
وأكمل بنبرة تحدٍ وصمود: "رغم الألم والجرح العميق، لن تدفعنا جرائم الاحتلال ومخططاته للهجرة وترك منازلنا من جديد. لن نقبل بنكبة جديدة."
قبل أيام قليلة فقط، ألقت طائرات إسرائيلية منشورات ورقية في سماء مخيم الشاطئ، تساقطت في الأرجاء، فوقعت إحداها في يدي المُهجّريْن حرب والبردويل. قرآ المكتوب عليها؛ فإذا بها تحفّز سكان غزة على "الهجرة الطوعية". نظر المسنّان إلى بعضهما وضحكا عاليًا قبل أن يمزّقا ذلك المنشور إربًا، ويؤكدان أنهما لن يتركا غزة مهما بلغت شراسة الحرب.
في نهاية اليوم، يعود الرجلان إلى منزليهما في المخيم المنكوب، يفرشان ذكريات قريتيهما المهجّرتين تحت وسادتيهما المثقلتين بالحنين، وهما يدركان أن العودة حق لا مفر منه، ولا تنازل عنه.

