وسط واقع إنساني يزداد قسوة يومًا بعد يوم، يعيش عشرات الآلاف من النازحين في قطاع غزة بين برك الصرف الصحي وأكوام القمامة، بعد تدمير شبه كامل للبنية التحتية، وعجز البلديات عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات. هذه البيئة الملوثة لا تهدد فقط صحة النازحين وأطفالهم، بل تنذر بكارثة صحية وبيئية وشيكة قد تتجاوز تداعياتها حدود المخيمات المؤقتة لتطال كل القطاع.
في مخيمات النزوح المنتشرة على الطرقات وفي الساحات العامة، يجد الأهالي أنفسهم محاصرين بروائح كريهة وحشرات ناقلة للأمراض، دون أي حلول تلوح في الأفق، ما يجعلهم في مواجهة يومية مع الموت البطيء.
بيئة ملوثة
في محاولة يائسة لحماية أسرته، يعمل المواطن مناصر معروف على إقامة سدٍّ ترابي لمنع مياه الصرف الصحي من الوصول إلى خيمته البالية، التي اضطر إلى نصبها بجانب أحد الطرق بسبب عدم توفر بديل آخر.
يقول معروف، وهو نازح من بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، لـ "فلسطين أون لاين": "بحثت كثيرًا عن مكان لإقامة الخيمة فلم أجد إلا هنا، بالقرب من مياه الصرف الصحي". ويضيف، وهو أب لأربعة أطفال: "أخشى على أطفالي من الأمراض، فمن لم يمت بصواريخ الاحتلال ستقتله الأمراض. نعيش وسط برك الصرف الصحي وأكوام القمامة، لكن لا يوجد لدينا أي بديل".
ولا يبدو الحال أفضل بالنسبة للنازح أحمد خضر، إذ يشتكي من انتشار الحشرات والبعوض في خيمته، ما يجعله عاجزًا عن الجلوس أو النوم بسبب اللدغات المتكررة، التي تزداد سوءًا نتيجة أكوام القمامة ومياه الصرف الصحي الراكدة.
ويشير خضر إلى أن أسرته تعاني باستمرار من الحكة والطفح الجلدي، خاصة أطفاله الصغار الذين لا يستطيعون التوقف عن الحكّ بسبب لدغات الذباب والبعوض. يقول بصوت يملؤه الإحباط: "حتى الطعام لا نستطيع أكله براحة، فالحشرات تحيط بنا، ولا نعرف ماذا يمكن أن نفعل".
وخلال حرب الإبادة، دمّر جيش الاحتلال نحو 655 ألف متر من شبكات الصرف الصحي في قطاع غزة، بحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي. ووفق ذات المصدر، فإن جيش الاحتلال دمّر حوالي 88% من البنى التحتية في القطاع، بما يشمل المنازل والمنشآت الحيوية والخدماتية.
ولا تقتصر المعاناة على المخيمات فقط، بل تمتد إلى الأحياء السكنية، حيث يجد المواطن أحمد الدلو صعوبة في الوصول إلى منزله بسبب مياه الصرف الصحي التي غمرت الشارع وأغلقت الطريق المؤدي إليه.
يتحدث الدلو بينما يقف أمام بركة من مياه الصرف تغلق الطريق، محاولًا وضع بعض الحجارة لتسهيل عبوره: "لا أعرف كيف أصل إلى منزلي بسبب المجاري المنتشرة في عرض الشارع. الرائحة كريهة للغاية، والمياه راكدة منذ شهور طويلة، ولا حلول".
أما الشاب إياد مهنا، فهو يواجه تحديًا آخر، حيث يمنع أطفاله من الخروج إلى الشارع خوفًا من مياه الصرف الصحي التي تحيط بالحي. يجلس مهنا أمام باب منزله ممسكًا بيد طفله الصغير، ويقول بأسى: "كلما طلب مني أطفالي الخروج للعب، أشعر بالخوف. كيف أسمح لهم بالخروج في شارع غارق بمياه الصرف الصحي؟".
بنية تحتية مدمرة
ويؤكد مدير دائرة المياه والصرف الصحي في بلدية غزة، المهندس ماهر سالم، أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في إغلاق معابر القطاع، ومنع إدخال الوقود، انعكس سلبًا على تشغيل آليات البلدية الخاصة بتسيير شبكات الصرف الصحي.
وأوضح سالم لـ"فلسطين أون لاين" أن البنية التحتية تعرضت لدمار واسع النطاق خلال حرب الإبادة على غزة، حيث دمّرت قوات الاحتلال 8 مضخات للصرف الصحي، 3 منها بالكامل و5 بشكل جزئي.
وذكر أن البلدية اضطرت، لتفادي فيضان مياه الصرف الصحي في الشوارع والأحياء السكنية، إلى تحويل المياه العادمة غير المعالجة إلى برك تجميع مياه الأمطار، التي أصبحت ممتلئة بالكامل.
وأشار إلى أن هناك أكثر من نصف مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي في بركة الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، و100 ألف متر مكعب في حوض 7B، ما يهدد بتلوث الخزان الجوفي، إلى جانب انتشار الروائح الكريهة والحشرات والقوارض، مما يزيد من مخاطر تفشي الأمراض والأوبئة.
وحول أزمة النفايات المتفاقمة، حذر سالم من توقف عملية جمع النفايات بسبب عدم توفر الوقود، ما يهدد بانتشار الأمراض، خاصة مع اقتراب فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة.
وأشار إلى أن الاحتلال يواصل، منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة في أكتوبر 2023، منع نقل النفايات إلى المكبّ الرئيسي في جحر الديك، مما تسبب في تراكم أكثر من 190 ألف متر مكعب من النفايات في شوارع وأحياء غزة.
وأضاف: "شوارع غزة أصبحت مملوءة بالنفايات التي باتت بؤرًا لتكاثر الحشرات والبعوض والقوارض، مما يهدد حياة المواطنين ويؤدي إلى انتشار الأمراض، ناهيك عن الروائح الكريهة التي تنبعث ليلًا ونهارًا".