داخل خيمة نُصبت في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، جلست نهال السويركي (43 عامًا)، تتأمل صورة قديمة على شاشة هاتفها، تُظهر منزلها شرق بلدة القرارة قبل تدميره، وإلى جانبه شجرة ليمون باسقة كانت تفتخر بها دائما.
تنظر إلى الصورة بصمت طويل، ثم تهمس: "كانت شجرة مباركة... نرويها من بئرنا الصغيرة، ونقطف منها الليمون لكل الجيران. الآن لا بيت، ولا شجرة، ولا حتى بئر".
تقول السويركي وهي تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها لصحيفة "فلسطين": "كنا نظن أننا في أمان. بيتنا بعيد عن الحدود. لكن الاحتلال طلب منا إخلاء المنطقة، ومن ثم لم نستطع العودة مجددا".
لم تأخذ العائلة شيئًا سوى الوثائق الشخصية وملابس الأطفال، وبعد أيام من النزوح وصل إلى مسامعهم نبأ تحول منزلهم إلى ركام بفعل الغارات الإسرائيلية.
المنزل الذي تهدم كان يضم خمس غرف وحديقة صغيرة، فيها مزرعة لزراعة النعناع والبقدونس والبصل، مصدر دخل العائلة الوحيد بعد وفاة والدهم قبل سنوات.
"كان عندنا بئر ماء، وكنا نبيع الخضار للناس" تقول السويركي بأسى، "الآن نعيش في خيمة بلا ماء ولا كهرباء، ننتظر وجبات المساعدات، وأطفالي يسألونني: متى نرجع؟ ولا أملك إجابة".
ما حدث لعائلة السويركي لم يكن حالة استثنائية، بل واحد من آلاف الحالات المماثلة التي كشف عنها تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست، نقلًا عن منظمة حقوقية إسرائيلية، تحدثت فيه عن اعترافات لجنود إسرائيليين خدموا في غزة، قالوا إنهم تلقوا أوامر بهدم ممنهج لمنازل المدنيين بهدف إنشاء منطقة عازلة، حتى في غياب أي تهديد مباشر من السكان.
أحد الجنود، وفق التقرير، قال: "كنا نعلم أن البيوت خالية، لكن القائد قال: اهدموها كلها، نحن نُطهّر الأرض".
وأضاف آخر: "هدمنا أكثر من 3500 مبنى، بعضها كان مزرعة أو بيتًا صغيرًا. استخدمنا الجرافات والمتفجرات، دون أي مقاومة".
الجنود أنفسهم وصفوا هذا التدمير بأنه "غير مبرر"، فيما أشاروا إلى أن الضباط قالوا لهم إن الهدف هو منع تكرار هجوم 7 أكتوبر، حتى لو لم تكن هناك مقاومة في المناطق المستهدفة.
ما بين إفادات الجنود وتوثيقات المنظمات الحقوقية، وبين دموع الناجين من ركام بيوتهم، تظهر صورة واضحة: تطهير الأرض لم يكن لأغراض عسكرية قط، بل كسياسة تهجير قسري طبقت على كامل الحدود بهدف تحويلها الى منطقة عازلة.
تدمير الإنتاج الغذائي
شرق مدينة غزة، حيث كانت تمتد واحدة من أغنى المناطق الزراعية على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، يقف المزارع محمد أبو رمضان (52 عامًا) عاجزًا أمام مشهد الأرض التي عاش عمره يزرعها، وقد تحولت إلى أرض قاحلة مدمّرة، تغطيها آثار سلاسل الجرافات ودخان الحرائق.
يقول أبو رمضان، الذي ورث أرضه عن والده لـ"فلسطين"، إنها كانت تنتج سنويًا أطنانًا من الطماطم، الخيار، والفلفل الحلو، وتُسهم في تغذية الأسواق المحلية في المحافظة الوسطى وحتى مدينة غزة.
"كنا نزرع ونبيع في السوق ونعيش بكرامة. اليوم لا أرض، لا إنتاج، لا دخل... حتى شبكة الري دمروها، والمياه اختلطت بالركام والسموم"، يشرح وهو يمرر يده فوق كومة تراب كانت قبل أشهر فقط مزرعةً خضراء.
ويحذر أبو رمضان من كارثة زراعية قادمة: "غزة تعتمد على هذه المناطق الحدودية بشكل كبير لإنتاج الخضار. إذا أصبحت كلها منطقة عازلة، فإن القطاع سيفقد سلة غذائه، وسنضطر لاستيراد كل شيء، وهذا مستحيل في ظل الحصار".
ويضيف: "مش بس هدموا بيتنا، دمروا الاقتصاد، دمروا مصدر رزقنا الوحيد. المناطق الحدودية كانت تعني لنا الحياة، والآن أصبحت رماد".
جريمة ضد الإنسانية
ويرى الخبير القانوني صلاح عبد العاطي، أن ما تقوم به دولة الاحتلال من هدم واسع للمنازل والمزارع في قطاع غزة يرقى إلى جريمة تطهير عمراني، ويشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
ويقول عبد العاطي لـ"فلسطين": "الهدم الممنهج لمنازل المدنيين دون وجود ضرورة عسكرية مباشرة، كما ورد في شهادات جنود الاحتلال أنفسهم، يُعد مخالفة جسيمة للبند 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، الذي يحظر تدمير ممتلكات السكان المحميين".
ويؤكد أن الحديث عن إقامة منطقة عازلة على حساب أراضي الفلسطينيين، وبطريقة تُفرغ الشريط الشرقي من سكانه ومزارعه، يعكس نية واضحة لـتغيير ديمغرافي وجغرافي قسري.
"الاحتلال يحاول خلق واقع جديد على الأرض، من خلال سياسة الأرض المحروقة، سواء بتجريف الأراضي الزراعية أو قصف البنية التحتية، وهو ما يُعد جريمة حرب قد يُحاسب عليها أمام المحاكم الدولية،" يضيف عبد العاطي.
ويشدد على أن هذه الأفعال لا تندرج تحت مفهوم "الاحتياطات العسكرية"، بل تقع ضمن سياسة العقاب الجماعي، التي يعاقب عليها القانون الدولي.
وتابع الخبير القانوني: "إن المجتمع الدولي مطالب اليوم بالتحرك لوقف هذه الجرائم، ومحاسبة مرتكبيها، وعدم السماح بفرض منطقة عازلة عبر القوة الغاشمة".