على امتداد خيام الإيواء في غزة، لا يُسمع بكاء الأطفال فقط بسبب الخوف من الغارات، بل أيضا بسبب الجوع. أطفال بأجساد هزيلة، عيون غائرة، وشفاه مشققة، يتصارعون مع الجوع الصامت الذي لا تُسمع طلقاته، لكنه يقتل بصمت.
وأعلنت منظمة اليونيسف الأممية عن إغلاق 21 مركزا لعلاج سوء التغذية في قطاع غزة بعد استئناف العدوان الإسرائيلي، وإصدار الاحتلال أوامر إخلاء في مناطق كانت تعمل بها الفرق الطبية والإنسانية.
"بطنها الجائع يئن قبل جنينها"
في غرفة ضيقة داخل مدرسة تؤوي نازحين في حي الصبرة بمدينة غزة، تجلس سمية عدلي (27 عامًا) على فراش إسفنجي مهترئ، تحتضن بطنها المنتفخ في شهره الرابع، وتقول لصحيفة "فلسطين": "كلما سمعت صوت قصف، أشعر بانقباض في بطني... أخشى أن يموت جنيني من الخوف أو الجوع".
قبل اندلاع حرب الإبادة، كانت سمية تراجع مركز سوء التغذية القريب من منزلها مرة كل أسبوع، حيث كانت تتلقى المكملات الغذائية وحقن الحديد، وتخضع لمتابعة طبية بسبب معاناتها من فقر الدم ونقص الوزن. إلا أن المركز أغلق أبوابه منذ بدء تصاعد الغارات الإسرائيلية في المنطقة، شأنه شأن العديد من المراكز الصحية التي دُمّرت أو خرجت عن الخدمة.
تقول سمية: "لم أتناول اللحم منذ مطلع مارس الماضي، وبالكاد أجد الحليب أو الخضروات.. وجبة اليوم كانت صحنًا من العدس المسلوق، وزوجي لا يستطيع شراء غيره".
ويحذّر الأطباء من أن سوء التغذية لدى النساء الحوامل لا يهدد حياتهن فحسب، بل يعرّض الأجنة أيضًا لخطر الوفاة أو التشوهات أو الولادة المبكرة.
ومع النقص الحاد في المواد الغذائية، وانقطاع الدعم الطبي، وغياب الرعاية الصحية المنتظمة، تجد سمية نفسها أمام احتمال إنجاب طفل ضعيف، أو فقدانه قبل أن يرى النور.
تقول وهي تنظر بحزن إلى بطنها: "أحلم بأن أطمئن على نبضه بجهاز السونار، لكن المستشفى بعيد، والطرق محفوفة بالمخاطر.. وإن حدث لي مكروه، فلن أجد من ينقذني".
تنظر إلى بطنها وكأنها تعتذر لطفل لم يولد بعد، عن جوع لم يكن له يد فيه، وعن حربٍ إبادة لم يختر أن يولد خلالها.
"دعوا طفلي يعيش"
في مخيم إيواء على أطراف حي الشجاعية شرق مدينة غزة، كان إياد غنيم ممسكا بطفله يحاول تهدئته.
يقول غنيم لصحيفة "فلسطين": إن طفله جهاد ثلاث سنوات، يعاني من سوء تغذية حاد انعكس على حالته الصحية حتى بدأ وجهه شاحبا مع هالات سوداء أسفل عينيه في إشارة إلى تعرضه للجفاف.
وكان غنيم قد بدأ علاج طفله في مركز تابع لليونيسف في الشجاعية، وكان يخضع لبرنامج علاجي دقيق: فحوص أسبوعية، مكملات غذائية، ووجبات طبية عالية السعرات، لكن هذا الأمل لم يدم طويلاً، فبعد تصعيد عسكري اسرائيلي جديد، أصدر جيش الاحتلال أمرًا بإخلاء المنطقة، وأُغلق المركز.
"بلغونا بيوم وليلة. حتى الأدوية اللي عندهم ما قدروا يعطونا إياها. خرجنا من هناك ومعانا ورقة مواعيد ما عاد إلها معنى"، يتابع الأب.
الآن، إياد فقد وزنه مجددًا، لا يستطيع الوقوف على قدميه، يتقيأ كل ما يدخل معدته، ولا يوجد طبيب أو مسعف في المخيم.
ويضيف: "حاولت أطلب حليب علاجي من الناس، بس الكل بحاجته ولم أجد من يمنحني إياه".
حين يُسأل عن أمنيته، لا يتحدث عن وقف الحرب، بل يقول فقط: "بدي إياد يعيش… بس يعيش، مهما كان الثمن".
آثار صحية
يقول د. سامر مشتهى، الطبيب العام في عيادة الوكالة في حي الشيخ رضوان لصحيفة "فلسطين": "إغلاق مراكز علاج سوء التغذية شكّل ضربة قاصمة، ليس فقط للأطفال، بل أيضا لكثير من البالغين الذين يعانون من أمراض مزمنة تجعلهم أكثر عرضة للخطر عند غياب التغذية السليمة. نحن لا نتحدث عن جوع عابر، بل عن مجاعة متفاقمة، تفترس الصغار وتنهك الكبار".
يوضح مشتهى أن سوء التغذية في غزة لم يعد يُصيب فئة عمرية محددة، بل أصبح تهديدًا عامًا: "نشاهد أطفالًا بأوزان أقل بكثير من معدلاتهم الطبيعية، ونساء حوامل لا يجدن ما يسد رمقهن، ومسنين تنهار أجسادهم بسبب نقص البروتينات والمعادن. الكارثة أن كثيرا من هؤلاء كانوا يتابعون في مراكز متخصصة، وكانوا يتحسنون، والآن تُركوا يواجهون مصيرهم وحدهم".
ويتابع بأسى: "نحن نرى آثار هذا الانهيار يوميا: ارتفاع في حالات الإغماء، فقدان للتركيز، أطفال لا يستطيعون الجلوس أو الوقوف، ونساء يأتين إلينا وهن يرتجفن من الضعف. المراكز التي أُغلقت كانت الملاذ الأخير، وإغلاقها دون بدائل هو حكم بالإعدام البطيء".
ويختم مشتهى قائلًا: "الجوع لا يميز بين صغير وكبير، والسكوت عن هذه المأساة وصمة في جبين العالم. الناس هنا لا يموتون فقط بالقصف، بل أيضا بالصمت، بالجوع، بالإهمال المتعمد".