فدائيات الحصار اسم أطلق آنذاك على الأخوات الماجدات المجاهدات، اللائي خرجن في سبيل الله استجابة لصرخات الاستغاثة، وتلبية لنداء الواجب الأخوي، وبفضل الله نجحن في فك الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال على المجاهدين، الذين تحصنوا في مسجد النصر بمدينة بيت حانون، وكانت تتقدمهم أم الفدائيات الاستشهادية الحاجة "فاطمة النجار"، ونذكر في هذا المقام رفيقة دربها الشهيدة الحاجة "أم صالح البطش".
وتفصيل ذلك في مساء يوم الأربعاء في الفاتح من شهر نوفمبر سنة 2006م، كانت مدينة بيت حانون على موعد مع معركة وملحمة بطولية، سطر فيها المجاهدون بدمائهم الزكية الطاهرة أسمى آيات الشموخ والإباء، والتضحية والفداء، فكانت معركة أهل الجنة كما سماها المجاهدون، إذ اجتاحت القوات الخاصة والآليات العسكرية بيت حانون من أربعة محاور، فتصدى المجاهدون للقوات الغاشمة ببسالة نادرة، وشجاعة باهرة، واشتبكوا اشتباكًا مباشرًا مع القوات الخاصة، واستشهد في ذلك الاشتباك القائد الشهيد أحمد يوسف سعدات، بعد أن أبلى المجاهدون بلاء حسنًا في هذه المعركة البطولية، مع أن كفتي ميزان القوى غير متكافئتين.
وفي اليوم الثالث للاجتياح اشتدت شراسة العدو وكثافة نيرانه، فلجأ عدد من المجاهدين إلى مسجد النصر للتحصن فيه، وكان عددهم ثلاثة وسبعين مجاهدًا، وأخذت دبابات العدو تزحف نحو المسجد، وبدأ الخناق يضيق على المسجد الذي يتحصن فيه المجاهدون من الجهات جميعًا، وقد اعتلى القناصة المناطق العالية التي تحيط بالمسجد، وبدأت قوات الاحتلال بالنداء على المجاهدين بمكبرات الصوت طالبة منهم أن يسلموا أنفسهم، وإلا فهدم المسجد على رؤوسهم، ولكنهم رفضوا الاستسلام وأكدوا عزمهم على المواجهة، مهما عظمت التضحيات، وعقدوا النية على الشهادة في سبيل الله، مطلقين على معركتهم "معركة أهل الجنة"، فتمترسوا داخل المسجد، وتوكلوا على الله الواحد الأحد، وسلموا أنفسهم له، وعلموا أن أمرهم أصبح الآن موكلًا إلى ربهم، فعانق بعضهم بعضًا، ومن هذه اللحظة أطلقوا على أنفسهم أهل الجنة، فتعلقت قلوبهم بربهم وما زادهم ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، ولكن الله (جل في علاه) أبى إلا أن يكتب لهم النجاة، بعد أن تمكنت فدائيات الحصار (كما أحببن أن يطلقن على أنفسهن) من تسجيل صفحة خالدة حافلة بالتضحية والفداء، في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وقد أعدن إلى الذاكرة صورة نساء الصحابة (رضوان الله عليهن)، وهن يتجولن بين المجاهدين يضمدن الجراح، ويسقين الماء، ويسعفن الجرحى، خلال المعارك والغزوات التي خاضها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ففي فجر يوم الجمعة في الثالث من شهر نوفمبر هبت نساء بيت حانون، والمناطق المجاورة لها جباليا ومعسكرها وبيت لاهيا والنزلة في مسيرات حاشدة لدعم المجاهدين ورفع الحصار عنهم، بعد أن تحصنوا في مسجد النصر وسط البلدة القديمة ببيت حانون، ومع كثافة الرصاص الذي أطلق عليهن، ومع أنهن أثخن بالجراحات، وارتقى منهن إلى العلا شهيدات تقدمن نحو المسجد الذي يحتمي فيه المجاهدون، مسرعات مندفعات غير مكترثات بالتحذيرات التي انطلقت من المكبرات بعدم الاقتراب من المسجد المحاصر، ولا آبهات لنيران الدبابات، وبفضل الله ومنته تمكنّ ونجحن في التغطية على خروج المجاهدين الذين كانوا محاصرين في المسجد.
حقًّا لقد صدقن الله فصدقهن الله، وما قمن به يجل عن الوصف، بل يعجز عنه الكثير من الرجال، كما قال في وصفهن الكاتب الأردني الدكتور حسين أبو زيد في وداع غزة: "إن نساء غزة وجب أن يخجل الكثير من أشباه الرجال النظر في أعينهن، لما قدمن من تضحيات على أرض فلسطين"، هذا ما قاله ابن الأردن الشقيق عن نسائنا، فماذا قال قادة العدو ومعلقو جيشه عنهن؟
لقد رأوا ما قامت به النساء الفلسطينيات اللاتي فككن الحصار عن المقاومين يمثل أسطورة تاريخية، فوصف رئيس حركة (ميريتس) يوسي بيلين الذي شغل في الماضي منصب وزير القضاء ما قامت به هؤلاء النسوة بأنه أسطورة وموقف بطولي، سيضفي الصدقية والاحترام على النضال الفلسطيني، وفي مقابلة أجرتها معه الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية صباح يوم الأحد الموافق الـ(5) من نوفمبر من عام 2006م قال بيلين: "إن هؤلاء النسوة سيصبحن مثالًا سيحرص على الاقتداء به الفلسطينيون والعرب والمسلمون في أرجاء العالم جميعًا".
أما الجنرال "زئيف شيف" المعلق العسكري لصحيفة (هآرتس) فقال: "إن هؤلاء النسوة صنعن تاريخًا بعد أن تزودن بإيمان كبير وعقيدة صلبة جعلاهن يقدمن على هذه المخاطرة، التي تسببت بمقتل وجرح عدد كبير منهن، من أجل العمل على فك الحصار عن المسلحين الفلسطينيين الذين كانوا محاصرين في المسجد"، ورأى شيف أن ما قامت به النساء الفلسطينيات بقيادة النائب عن حركة حماس جميلة الشنطي سيسجل حدثًا هامًّا وسيدرس في كتب التاريخ.
ومن ناحيته قال عاموس هارئيل المعلق العسكري البارز: "إن أحداث بيت حانون تدل بما لا يقبل الشك على الدور الكبير الذي تقوم به المرأة الفلسطينية في قتال الجيش الإسرائيلي".
ومن جانبه رأى المعلق الصهيوني للشؤون العربية داني روبنشتطاين أن وقوف الجمهور الفلسطيني إلى جانب المقاومين في مواجهتهم جيش الاحتلال ببيت حانون مع ما يطال هذا الجمهور من أذى يدل على أن الشعب الفلسطيني يلتف حول مقاومته, الأمر الذي يدل على بؤس الرهان على إحداث شرخ بين الشعب الفلسطيني ومقاومته, وعد إقدام نساء فلسطين على التضحية بأرواحهن من أجل إنقاذ المقاومين الدليل القوي على ذلك، هذا ما قاله قادة العدو ومعلقوه العسكريون عن نسائنا المجاهدات الماجدات، وكما قيل: "الحق ما شهدت به الأعداء".