فلسطين أون لاين

الدكتور مصطفى جمعة لـ "فلسطين"..

حوار استشهاد القادة الفلسطينيِّين في الخطوط الأماميَّة يعزِّز السَّرديَّة الأدبيَّة المقاومة

...
استشهاد القادة الفلسطينيِّين في الخطوط الأماميَّة يعزِّز السَّرديَّة الأدبيَّة المقاومة
غزة/ علي البطة:

- بطولات المقاومة الفلسطينية أسست السردية الفلسطينية الحديثة

- معركة طوفان الأقصى أظهرت بجلاء معنى القيادة الجماعية

أكد الأستاذ الدكتور مصطفى عطية جمعة أستاذ الأدب العربي والنقد والحضارة من مصر، أن استشهاد القادة الفلسطينيين في الخطوط الأمامية يعزز السردية الأدبية المقاومة، حيث يمكن توثيق تجاربهم في أعمال أدبية تستند إلى شهادات حية.

ورأى جمعة في مقابلة مع صحيفة "فلسطين" أنه يمكن تحويل هذه الروايات إلى أفلام ومسلسلات تحكي قصصهم بشفافية وواقعية، مما يسهم في إحياء فن السيرة القيادية.

وشدد على أن المقاومة الفلسطينية وفي طليعتها كتائب القسام قدمت نموذجًا للجهاد المنظم والمبني على أسس إسلامية واضحة، بعيدًا عن التوجهات الفكرية المتصارعة. وأسست هذه الحركة مقاومة فعلية على الأرض، مما يجعلها مادة خصبة للأدب الذي يسعى لتقديم نماذج قيادية حقيقية.

واستشهد أبرز قادة حماس وكتائب القسام في مواقع عدة خلال حرب الإبادة في غزة، يتقدمهم رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية وخليفته يحيى السنوار ونائب رئيس الحركة صالح العاروري وقائد أركان كتائب القسام محمد الضيف ونائبه مروان عيسى، إلى جانب عدد من أعضاء المكتب السياسي لحماس والمجلس العسكري للقسام.

وأشار جمعة إلى أن القضية الفلسطينية تعد محورًا أساسيًا في الأدب العربي والعالمي، حيث جسدت الروايات والأعمال الدرامية أوجه المعاناة والنضال الفلسطيني في سياقات متعددة.

في هذه المقابلة الشاملة، نستعرض مع الدكتور مصطفى عطية جمعة تطور السردية الجهادية الفلسطينية، ودور القيادة في المقاومة، وأثرها في الأدب.

-  ما هي الصورة التي رسمها الأدب الفلسطيني والعربي للمقاومة الفلسطينية؟

عبّرت الآداب والفنون البصرية مثل السينما والدراما العربية عن أزمة فلسطين ونكبتها عامة، وأفاضت في تبيان ألوان من جهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته خاصة، وزخرت كثير من الروايات العربية التي تناولت القضية الفلسطينية بتدوين مرارات القتل والتهجير والحياة في المخيمات داخل الأرض المحتلة، أو في الأقطار العربية المجاورة، مثل الأردن، ولبنان، وسورية، وهناك روايات تناولت الشتات الفلسطيني في دول المهجر، واللافت أن هذه الروايات صوّرت أوجه المعاناة، والتهجير، ولكنها لم تشر في غالبيتها إلى القادة والزعماء وتجسيد نضالهم وكفاحهم. ربما نجد أعمالا قليلة جسدت ذلك، منها المسلسل السوري "عياش" (2005)، الذي صوّر حياة بطل المقاومة الفلسطينية يحيي عياش، وللأسف لم يجد انتشارا عربيا، بل لم تذعه إلا بضع قنوات فضائية، وطواه النسيان.

لقد تنوعت أشكال التعبير عن مأساة الشعب الفلسطيني في الأعمال السردية، والمثال الأبرز لها، رواية باب الشمس للروائي اللبناني "إلياس خوري"، (1998)، فعلى أكثر من خمسمائة صفحة، نسج خوري ملحمية بديعة للسردية الفلسطينية ومأساة التهجير، تبدأ من أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وحتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، مرورا بمظالم النكبة والشتات، وكذلك أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، وما حدث لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومذابح صبرا وشاتيلا، التي تمت بدعم من إسرائيل، ووزير جيشها شارون، وقتئذ، كما تطرقت الرواية إلى مذابح يلول الأسود في الأردن، وهي عن أحداث الصدام بين السلطة الأردنية، والمقاومة الفلسطينية التي جعلت من نفسها دولة داخل الدولة. كانت تقنية السرد، أساسها الانتقال الزمني بين حاضر وماض، على لسان الدكتور خليل، الذي يعتني بأبيه الروحي المناضل يونس الأسدي في المستشفى، بعد أن دخل الأب في غيبوبة آمن خليل أن التواصل مع والده، في أيامه الأخيرة، سيكون من خلال الحكي عن ذكرياته، فربما يكون سببا لشفائه وإعادته إلى الحياة، وهكذا، نطوف في ذاكرة الأب، ومخيلة الابن، ونتعرف على شخصية خليل الحقيقية، وحبيبته شمس التي قُتلت وتفرق دمها بين العشائر. إنها سردية فلسطين المقاومة، ومأساة النكبة، وحوادث الإبادة في القرى الفلسطينية، وتعرض لقسوة الحياة في مخيمات اللجوء، مع براعة في توظيف تيار الوعي. كانت المادة الأساسية التي استند إليها مؤلف الرواية خوري، هي شهادات جمعها من المخيمات، فجاءت الرواية حيّة، بشخصيات من لحم ودم تحفل بعشرات القصص التي تشبه قطع فسيفساء حوافها الألم، وتفصيلاتها الدماء، وتظل في النهاية تؤرخ للشعب والرجال.

- هل برز في الكتابات الأدبية الحديثة وجوها قيادية تتقدم صفوف الشعب في النضال والتضحية؟

افتقدت الكتابات الأدبية في غالبيتها أعمالا تؤرخ وتصوّر قيادات المقاومة، أي روايات الشخصيات الفاعلة والمحورية، وهذا عائد إلى ما اكتنف النضال الفلسطيني من مشكلات عديدة، تتصل بسلوك قادة النضال أنفسهم، وموقف الشعب والمثقفين والأدباء منهم.

فلاشك أن المقاومة الفلسطينية كانت لها قيادات عديدة في مراحل مختلفة، ولكنها قيادات متوزعة في اتجاهات وتيارات فكرية وسياسية متعددة، ما بين حركة فتح، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديموقراطية، والحركات الإسلامية. فهي قيادات متفرقة، مختلفة الأفكار والتوجهات والمرجعيات الفكرية، وتلك كانت الأزمة الحقيقية للنضال الفلسطيني في تاريخه الطويل، فعلى الرغم من البطولات التي قدمها الشعب، إلا أن هناك صراعات بين هذه القيادات، بحكم اختلاف أجنداتها، والجهات الدولية والإقليمية التي دعّمتها، بل إن بعض هذه القيادات كانت بمثابة بنادق للإيجار، وتورطت في اغتيالات لصالح أنظمة، ومنها على سبيل المثال، شخصية " أبو نضال"، ذي الشبهات الكثيرة التي حامت حول علاقاته مع أجهزة مخابرات دولية وعربية، وما عُرِف عنه من تصفيات لمعارضين وسياسيين، لجهات تدفع وتموّل. ومن هنا، يمكن القول، إن النضال الفلسطيني على عظم ما قدّم من تضحيات، على قدر ما كانت هناك انحرافات في بوصلته، مما أدى إلى تشرذم الجهود، وضياعها، ما بين صراعات سياسية داخل منظمات المقاومة نفسها، أو صراعات فيما بينها، أو صراعات مع أنظمة عربية ودولية.

- هل أظهرت معركة طوفان الأقصى معنى مختلف للقيادة الفلسطينية؟

معركة طوفان الأقصى، أظهرت بجلاء معنى القيادة الجماعية، من خلال التحالف بين حركة حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وسائر الفدائيين والمناضلين الشرفاء، وأظهرت في الوقت نفسه حجم المتاجرين بالقضية، المستفيدين من الوضع الراهن، الذي يتعيش على الدعم الصهيوني، ومن ورائه الدعم الأمريكي. لقد صحح طوفان الأقصى البوصلة، وجعلها في اتجاه واحد وهو فلسطين الوطن والأرض والمقدسات، بل إنها تفاوضت مع العدو الصهيوني لإطلاق سراح جميع الأسرى، من كافة المنظمات الفلسطينية، وهناك شخصيات عظيمة في نضالها مثل مروان البرغوثي، وخالدة جرار. وهو ما يجعلنا ندعو كتّاب الرواية والقصة، وصنّاع الدراما والسينما إلى تقديم أعمال عن الشخصيات القيادية الحقيقية التي ناضلت، ودفعت حياتها ثمنا لمواقفها، ومن أبرزهم قادة حماس: أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي سابقا، وقريبا إسماعيل هنية، يحيي السنوار، محمد الضيف، وقادة الجهاد الإسلامي، ومنهم فتحي الشقاقي، فكل واحد من هؤلاء وراءه رحلة كفاح، ونضال، توّجت باستشهاد، لتكون دماؤها الزكية شاهدة على إخلاصها، وصواب بوصلتها، بكونها نماذج صادقة مخلصة.

-ما أثر استشهاد قادة في مواقع القتال بغزة في الكتابات الأدبية؟

إن الكتابة الأدبية التي يمكن أن تتأسس لاستشهاد هؤلاء القادة تستند في الأساس إلى كونهم تجارب حية، رأيناها تخطب، وتجاهد، وكثير منهم فقدوا زوجاتهم وأبناءهم، ومع ذلك واصلوا نضالهم، لم يعرفوا ركونا، ولا استسلاما، بل إنهم أوجدوا من ورائهم أجيالا تسير على خطاهم، وتستلهم من شخصياتهم معاني سامية، فلا عجب أن تذكر إحدى أسيرات العدو المفرج عنها أن إسرائيل لا يمكن أن تهزم هؤلاء، فكلما قتل واحد، خرج من بعده عشرة، الكل عازم على الجهاد، حالم بالاستشهاد.

 إن نوعية الكتابة الأدبية المرادة عليها أن تتسلح أولا بشهادات حية، موثقة، دقيقة؛ عن كل شخصية ضحّت، وقاومت، واستشهدت، ومن ثم تصاغ في روايات، يمكن تحويلها إلى أفلام سينمائية، ومسلسلات درامية، فأكثر الأعمال تأثيرا، هي المرتكزة على جهاد شخصيات عرفها الناس، وسمع كلامها الصادق، ورأى صبرها ونضالها.

ومن هنا، ننادي بأهمية إحياء فن روايات الزعماء والقادة، وهو الفن الذي تراجع في العقود الأخيرة، لصالح روايات متأثرة بالفكر الغربي، تغرق في ذات الإنسان، وشهواته، ونرجسيته، وأنانيته. فرواية الشخصية الملهمة، خاصة إذا كانت شخصية قيادية ضحت بحياتها بين السجون، وأنهت حياتها بالشهادة، لهي جديرة أن تصاغ في روايات ماتعة، سيكون الصدق أساسيا فيها، ويكاد يكون دور الأديب منحصرا في الصياغة الأسلوبية. ويمكن أيضا أن تفتح مجالا لأفلام وثائقية، ومسلسلات وبرامج إذاعية تمتاح من جهاد هذه الشخصيات، بدون تخيل سردي، فلماذا يتخيل الأديب، وأمامه أحداث ووقائع لا آخر لها، كلها حادثة، وقائمة، وهناك شواهد وشهود أحياء عليها.

- صور الشهداء من قادة حماس والقسام هل تكون ملهمة لأفكار أدبية؟

إن الحديث عن كتائب عز الدين القسام يحتاج إلى مجلدات، فهي الحركة الإسلامية الصاعدة، التي استطاعت أن تضع خارطة طريق للقضية الفلسطينية، تصحح المسارات السابقة، وما أصابها من انحراف، ذلك أنهم انطلقوا من الأرض، داخل الوطن المحتل، ولم يقاوموا في الفنادق الفخمة، ولا المهاجر الآمنة، ولم تخدعهم الدنيا، ولا الأموال، فقد أحيوا الجهاد في معناه الإسلامي المقدس، بعيدا عن الشعارات العلمانية (القومية، اليسارية، القطرية)، ونأوا بأنفسهم عن صراعات الأنظمة العربية، المتاجرة بالقضية الفلسطينية، ولعبوا على التناقضات فيما بينها، ليؤسسوا في النهاية عملا ملحميا، بحفر أنفاق عميقة، لم تستطع قنابل أمريكا دكّها، وإقامة مصانع حربية أسفل الأرض، أنتجت الصواريخ التي ضربت تل أبيب، وأذلت العدو، وجعلت من غزة مقبرة للصهيونية، وآخر الإحصاءات التي نشرها جيش الاحتلال الإسرائيلي تذكر أن قتلى العدو في حرب غزة ستة آلاف قتيل، ويرتفع العدد إلى (13 ألف) قتيل مع جبهات لبنان، والضفة الغربية، وهناك مئة ألف جندي إسرائيلي مصاب، نصفهم أمراض نفسية وعصبية.

كل هذا بفضل العقول المناضلة لقادة المقاومة في الصف الأول، ثم في الصفوف التي تليه، فمسيرة النضال مستمرة، والراية تنتقل من جيل إلى جيل.

- هل أحيت معارك غزة والضفة مفهوما جديدا للقائد الفلسطيني؟

معارك غزة، والضفة الغربية، أحيت من جديد مفهوم القائد الذي يتقدم الصفوف ويكون أول الشهداء، وهذا ما ينبغي التركيز عليه، وتسقط في المقابل النماذج الشوهاء من زعماء سياسيين، متكالبين على المناصب، على نحو ما نجد في الشخصيات السياسية التي أفرزتها اتفاقات أوسلو (1993)، فهؤلاء تصارعوا على مناصب وعطايا من المحتل الصهيوني، وروّجوا خطابات عن التعايش والسلام، هم أول العارفين أنها خطابات كاذبة، وأن الصهاينة أنفسهم يعلنون نقيضها كل يوم. كان لابد أن يبزغ تيار جديد، يقود الجهاد، ويصحح المسيرة، عينه على المقدسات، وثرى الوطن الطاهر.

- ما الذي تحفره تلك الصور في ذاكرة الشعب؟ وهل تؤسس لحكايا فلسطينية وعربية؟

على الرغم من وجود حملات تزيّف وتقلل وتزوّر منجزات المقاومة الفلسطينية، وكثير منها ممول ومدعوم من جهات إقليمية ودولية، إلا أن هذا لم يؤثر في مخيلة الشعوب العربية عامة، والشعب الفلسطيني خاصة، لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا يمكن للكلام والتزييف الإعلامي أن يزيف حقائق دامغة يراها الناس كل يوم على الشاشات، فهناك مَن ادّعى أن قادة المقاومة آمنون في الأنفاق، أو هاربون في دول الجوار، لنكتشف في النهاية أن هؤلاء القادة كانوا يقودون المعارك بأنفسهم، في الأنفاق، وعلى سطح الأرض، ولعل استشهاد يحيي السنوار في أحد المنازل، وما رأيناه من مرئيات وهو يقود أعمال المقاومة في شوارع غزة؛ لينهض دليلا على صدق هؤلاء.

يمكن القول إن بطولات حركات المقاومة الفلسطينية في العقود الأخيرة، وتحديدا مع طوفان الأقصى؛ قد أسست لما يمكن تسميته السردية الجهادية الفلسطينية الحديثة، التي تستند إلى قيم الجهاد بمرجعيته الدينية، وقيمة الاستشهاد بوصفه غاية يحلم بها المؤمن، وكما قال عمر المختار: "إما أن ننتصر أو نموت"، ولم يشر إلى الهزيمة، لأن المؤمن يتاجر مع الله، وسلعة الله غالية، ألا وهي الجنة، وبالنسبة للشهيد هي الفردوس الأعلى.

ليس أمام الأدعياء الكذابون في الإعلام العربي المسموم إلا الصمت الذليل، بعد سقطت كل ادعاءاتهم عن قادة المقاومة البواسل، الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل القضية، أما عموم الشعوب العربية والإسلامية، فهي تنظر بكل تقدير واحترام لهؤلاء القادة العظام، فقد نالوا الخلود في الدنيا، والخلود والفردوس الأعلى في الآخرة.

- ما هي الانطباعات الأدبية التي تحفرها صور استشهاد عدد من قادة الصف الأول؟

إن المفارقة التي تتأسس عليها السردية الجهادية الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى، استواء الجميع في الشهادة: القادة والجنود، الشعب والنخبة، الأطفال والرجال والنساء، فالكل شركاء في المقاومة، وأيضا في دفع الثمن من دمائهم وأبنائهم وزوجاتهم.

وكلهم احتضنتهم أرض غزة، التي رويت بدمائهم، وأبى سكانها أن يخذلوا المقاومة، فكانوا حاضنتها دائما، وأمدوا المقاومة بدفعات تجنيد متوالية، مما جعل العدو الصهيوني، ومن خلفه داعموه الدوليون في حالة ذهول، أمام شعب لا ينضب معينه من الدماء، كلما ارتقت جماعة أو قادة، فوجئوا بمن يأتي بعدها.

  إننا نقولها بصوت عال، إن معركة طوفان الأقصى تنهض لتكون سيرة متكاملة في النضال والمقاومة والاستشهاد، وفي التخطيط الدقيق، والتنفيذ المحكم، وهو ما يُلزم سائر المبدعين، ومن قبلهم المؤرخين، والباحثين، أن يوثقوا ما حدث في هذه المعركة، ويدوّنوا كل ما تحت أيديهم، وما توافر لهم من مادة تحريرية، لتكون بين أيدي الأدباء والفنانين، ويتم استلهامها في أعمال سردية مكتوبة، أو مرئية، أو مسموعة.