تتكدس الآلاف من مركبات النازحين العائدين إلى شمال قطاع غزة في طريق صلاح الدين، حيث باتت العودة إلى الديار رحلة طويلة وشاقة، يرافقها التفتيش الدقيق، والانتظار لساعات طويلة، ونقص الماء والغذاء.
بموجب اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين حماس ودولة الاحتلال الإسرائيلي في 19 يناير الجاري، تتولى لجنة مصرية أمريكية الإشراف على فحص المركبات العابرة نحو الشمال. لكن هذا الفحص الدقيق، إلى جانب العدد الهائل من النازحين، تسبب في ازدحام خانق على الطريق، حيث امتد طابور المركبات المحملة بالعائدين وأمتعتهم الشخصية لمسافة لا تقل عن ثلاثة كيلومترات، ما أجبر الكثير من العائلات على قضاء الليل في العراء وسط طقس شديد البرودة.
الانتظار الطويل في العراء
في المقعد الخلفي من شاحنة صغيرة مكتظة، يجلس الحاج أبو خالد السوسي (65 عامًا)، يراقب بعيون مرهقة الطريق الطويل الممتد أمامه. بجانبه، تحاول زوجته تغطية حفيدتهما الصغيرة بمعطفها المتواضع، لكن البرد القارس يخترق جسدها النحيل.
"لم أتخيل أن العودة ستكون أصعب من النزوح نفسه"، يقول الرجل العجوز بصوت متعب لـصحيفة "فلسطين"، قبل أن يضيف: "غادرنا خيمة النزوح في خانيونس عند الفجر، كنا نظن أننا سنصل خلال ساعات، لكننا هنا منذ أكثر من يومين، عالقون وسط هذا الطابور الذي لا يتحرك".
ينظر حفيده البالغ من العمر ست سنوات إلى الجموع من حوله، ثم يسأل ببراءة: "هل اقتربنا من بيتنا يا جدي؟" لا يعرف أبو خالد بماذا يجيب، فكل ما لديه من بيته هو صورة أرسلها له أحد الجيران، تُظهر أكوام الركام حيث كان يقف منزله.
مع مرور الساعات، بدأ التعب ينهك أفراد العائلة، ونفدت زجاجات الماء والطعام القليل الذي كانوا يحملونه. حاول أبو خالد النزول للبحث عن بائع متجول، لكنه لم يجد سوى بعض النازحين الذين يتقاسمون ما تبقى لديهم من الخبز الجاف والماء القليل.
ليلة قاسية على قارعة الطريق
على بعد مئات الأمتار من أبو خالد، كانت أم سامي الأشقر (38 عامًا) تجلس في المقعد الأمامي من سيارتها العالقة، بينما يحتضن زوجها طفلهما الأصغر، الذي لم يتوقف عن البكاء منذ المساء. أمامهم، تمتد صفوف طويلة من السيارات المتوقفة، وفي الخلف، لا يزال الطريق مزدحمًا بمزيد من المركبات التي تحاول التقدم نحو الشمال.
مع حلول منتصف الليل، بدأ الأطفال في البكاء من التعب والجوع. الصغير سامي (4 سنوات) تململ في مكانه وهو يهمس: "ماما، أريد الذهاب إلى الحمام". نظرت الأم حولها بقلق، لا توجد أي مرافق قريبة، ولا مكان آمن يمكن أن يستخدمه الصغير لقضاء حاجته.
أخذ الأب نفسًا عميقًا، ثم فتح باب السيارة ونزل وهو يمسك بيد طفله، باحثًا عن مكان بعيد عن الأنظار. في العتمة، وبين صفوف المركبات المتوقفة، حاول إيجاد بقعة مناسبة. عاد بعد دقائق، لكن عند وصوله، كانت طفلته الكبرى ليان (7 سنوات) تنتحب بصوت خافت: "أريد الحمام أيضًا…"
قضت العائلة ليلة صعبة وسط هذا الانتظار الطويل، بالكاد استطاع الأطفال النوم وهم متكدسون في المقاعد الخلفية، بينما ظل الأب مستيقظًا يراقب الطريق، مترقبًا أي حركة قد تشير إلى قرب تحركهم.
عند التاسعة صباحًا، بدأت المركبات تتحرك ببطء، لكن الانتظار لم ينتهِ عند هذا الحد. عند نقطة التفتيش، نزل النازحون من سياراتهم بناءً على طلب أحد رجال الأمن المصريين، واضطروا للمشي مسافة طويلة عبر مسار رملي، بعيدًا عن المركبات التي خضعت لفحص دقيق بالأشعة.
بعد اجتياز سائقي المركبات نقطة التفتيش، واصل النازحون طريقهم نحو الأحياء الشمالية، لكن الصدمة الكبرى كانت بانتظارهم عند الوصول.
العودة إلى أنقاض المنازل
بعد أكثر من 15 شهرًا من النزوح، وقف حسان أبو دية (41 عامًا) أمام منزله المدمر في حي التفاح شرق غزة، عاجزًا عن تصديق ما يراه. كان المكان بالكاد يُشبه ما تركه، فقد اختفت جدران منزله، وتحولت غرفه إلى أكوام من الركام المتناثر.
"كنت أظن أن العودة إلى البيت ستعيد لي الأمان، لكنني عدت ولم أجد سوى الحجارة"، يقول لـ"فلسطين أون لاين" بصوت منكسر، بينما يقلب بقايا أثاثه المتناثر بين الأنقاض.
في زاوية المنزل، لمح صندوقًا خشبيًا مكسورًا، فتحه بحذر، ليجد داخله دفترًا قديمًا يحمل رسومات أطفاله. ابتسم للحظة، لكنه سرعان ما شعر بغصة في حلقه. لم يكن يدري إن كان عليه الشعور بالفرح لأنه وجد شيئًا من ماضيه، أم الحزن لأن كل شيء آخر قد ضاع.
"أردنا العودة رغم علمنا أن بيوتنا مدمرة، كنا نظن أن وجودنا هنا سيكون أهون من التشرد، لكننا لم ندرك أن هذه العودة ستكون أكثر قسوة مما تخيلنا"، يقول وهو ينظر إلى الحي من حوله، حيث وقف العائدون بين أنقاض منازلهم، بعضهم يبحث بين الركام، وآخرون يجلسون على الأرض بصمت، وكأنهم يحاولون استيعاب حجم الدمار الذي حل بمنازلهم وأحلامهم.