يودع الواحد منهم عامًا من عمره يضاهي ثقله عقدًا من الزمن، يجتاز ثقل الأيام، ويطوي صفحاتٍ سافرت إلى تلابيب الذاكرة، كُتبت بحبر الدم، بلسعات الشمس، بنبضات خوف طفلٍ، وبدمعات غفت بين كفي الحزن وجرحٍ غائر استوطن القلب.
يمضي هؤلاء إلى أقدار مرسومة، يحاولون لملمة شتات حياتهم من ركام الألم، يشحنون قلوبهم بالصبر ويعمروها بأمنيات رفضت أن تدفن في مقابر الماضي، يركبون عجلة الحياة بأدنى سبل العيش، وهم يعقدون موثقا مع أحلام لا زالت تغفو في حضن المستقبل يضربون موعدا مع الغد على أمل أن ينتهي هذا الكابوس لينجو بأجسادهم وأحلامهم وكل شيء جميل ينتظرهم في قفص الحياة.
كل فرد في العالم يصافح العام الجديد وهو يضعُ أمنية وهدفًا يتطلع لتحقيقه، أو يحتفي بإنجازات شخصية وعائلية حققها في العام المنصرم، وهو يتطلع للمستقبل بأمنيات جديدة، في غزة الأمر مختلف، فالناس يتمنون العودة إلى الماضي وإلى حياتهم الطبيعية لما قبل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.
بعدما جمدت الحرب أحلامهم وعلقتها على روزنامة الانتظار، يستقبل المواطنون المكبلون بالمعاناة والآلام عاما جديدًا وهم يجتمعون على أمنية واحدة بوقف الحرب وعودة النازحين.
ويتطلع أهالي غزة في العام الجديد لعودة عجلة الحياة للدوران بعد 15 شهرًا من الحرب شلت الحرب خلالها كافة مناحي الحياة، وتدور بين عمل وتعليم، وتزاور عائلي واجتماعي ومشاركة بأنشطة وفعاليات علمية واجتماعية وترفيهية ووطنية وثقافية، يعتقدون أنها أصبحت من الماضي.
إخلاء ومجزرة
وأطل اليوم الأول من العام الجديد، بأوامر إخلاء أصدرها الاحتلال لمخيم البريج وسط القطاع، في تهديد جديد قد يتبعه موجة نزوح وتشريد في منطقة تؤوي نازحين من شمال قطاع غزة، وبتسجيل أول مجزرة في 2025 في منطقة جباليا البلد باستهداف منزل يأوي نازحين من عوائل "بدرة" وأبو وردة، وطروش، استشهد خلالها 15مواطنا وأصيب أكثر من 20 آخرين في هذه المجزرة، تضاف لآلاف المجازر ارتكبها الاحتلال العام المنصرف.
وكان الأهالي في السنوات السابقة يحتفون بالعام الميلادي الجديد بتزيين الطرقات وزيارة المطاعم وعقد اللقاءات العائلية وزيارات دور الألعاب، والمتنزهات العامة رغم الحصار الذي كانت تتأثر به منذ 17 عامًا، لكن العامين الأخيرين مرا، وقلوبهم مثقلة بالوجع والحزن والفقد وبجنازات تشييع لا تتوقف، وبيوت خاوية من أصحابها، وعائلات لم ينج منها أحد، أو عند المقابر أو في المستشفيات، وفي الخيام، ومراكز الإيواء وفوق ركام البيوت والشوارع، وعلى أبواب تكيات الطعام وفي طوابير المياه والخبز.
بداخل خيمتها الواقعة في منطقة المواصي غرب محافظة خان يونس، غرقت الخمسينية "أم محمد" في اليوم الأول من العام في دموعها، بعدما أغرقت مياه الأمطار أمس خيمتها، وبللت أمتعتها، ونخر البرد أجساد أولادها، تنظر بحسرة لواقع مؤلم تعيشه.
بينما تبدأ أم محمد حديثها لصحيفة "فلسطين" بهذا المشهد الذي عاشته أمس، تعود بذاكرتها لحياتها قبل الحرب، وكيف كانت تعيش في منزل يأوي أحلامها وحياتهم ويمنحهم السعادة، وتقول بملامح يحفر الحزن مخالبه فيها وهي تقلب كفيها أثناء جولتها بسوق وسط محافظة خان يونس: "راح البيت وهينا مشردينا بالخيمة، في أسوأ من هيك استقبال لعام جديد" مصحوبة بابتسامة تهكم على الحال المرير.
ورغم كل ما تعشيه لم ينقطع أملها من انتهاء الحرب، وعودتها للعيش على ركام منزلها، لتعيش وجها آخرا للصمود، والصبر على آلام الحرب.
وإن كانت أمنية أم محمد العودة لمنزلها ويشاركها فيها مئات الآلاف من النازحين، تتمنى الطفلة حلا رشيد (12 عامًا) العودة إلى المدرسة، وانتظام الدراسة.
قطعت الطفلة برفقة صديقتها مسافة طويلة قادمة مشيا من منطقة "قيزان النجار" الواقعة جنوب شرق محافظة خان يونس، للسوق لمشاهدة أجواء استقبال أول يوم في العام الجديد، لكنها كانت تحاول العودة لمنزلها بسرعة، بعدما لم تجد فرحة أو شيئا مختلفا عن أي يوم آخر سوى أجواء باهتة تلاحظها في وجوه الناس، تسبق إبتسامة ساخرة إجابتها: "ما لقينا شيء مختلف عن أي يوم وهينا مروحين".
في مشهد آخر، تقف إيمان وهي طالبة توجيهي أمام بوابة أحد المراكز التعليمية الخاصة بمحافظة خان يونس، تنتظر قدوم باقي زميلاتها قبل بدء حصتهم الدراسية في المركز، في ظل اقتراب موعد الامتحانات النهائية المقررة في فبراير/ شباط القادم.
لا تشعر الطالبة بأي بهجة للثانوية العامة، والتي تعد بمثابة بوابة للوصول لحلمها بالدراسة الجامعية، بعد تدمير الاحتلال لمعظم الجامعات في القطاع، الأمر الذي أنهى أحلامهم.
وإضافة لضياع الحلم المستقبلي أو تأخر تحققه، تدرس الطالبة رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجه طلبة الثانوية العامة في قطاع غزة، نتيجة انقطاع الكهرباء منذ أكثر من عام، واعتمادها على إضاءة الطاقة البديلة، وتأثرها بالجو العام الذي لا يساعد بالدراسة، فضلا عن صعوبة تحميل الحلقات الدراسية بسبب ضعف الإنترنت.
وتقول: "لا نشعر برهبة التوجيهي، وتلك الفرحة التي كنا نستشعر بها، باهتمام الأهالي بالطلبة، فالناس مكلومة ومجروحة بسبب الحرب ولا أحد يكترث الآن لشيء وكلنا ننتظر الحرب".
فرحة صامتة
ورغم مرارة الواقع الحالي، تنتظر ريهام نبهان إتمام فرحة زفافها خلال الأيام المقبلة، تحاول إجراء بعض الترتيبات البسيطة لإتمام فرحة صامتة تراعي "الجراح النازفة ومشاعر ذوي الشهداء" كما استهلت حديثها لصحيفة "فلسطين".
وتقول بحسرة تغمر قلبها وترسمها ملامحها: "تم خطبتي قبل الحرب بشهر، وعقدت مراسم خطبة مميزة بحضور الكثير من أفراد العائلة، وكنت سأتزوج بعد شهرين من الخطبة، واليوم ربما كان يفترض أن أحمل طفلي الأول، لكن وبسبب الحرب نزحت أكثر من مرة، ونجونا من الموت، وتأخر الزفاف".
بين حلم بالسكن في منزل مجهز بغرفة نوم وملابس عروس، وتنظيم حفلة زفاف كبير، تستقبل العروس فرحتها بمشاعر حزينة، وفرحة صامتة غابت فيها كل الترتيبات التي كانت تتمناها أو تحلم بها أي عروس، وفي أحسن الأحوال ستعقد مراسمها في غرفة صغيرة ولن يتجاوز عدد الحضور عن أصابع اليد أو أكثر قليلا.
ما تنتظره نبهان، عاشته يافا مكرم التي تزوجت في خيمة قبل عام بكل واقعها المأساوي وخلال فصل الشتاء، والآن تستقبل العام الجديد بانتظار مولودها الأول خلال يناير/ كانون ثاني الجاري.
وبعد فترة أشبه بمجاعة شهدتها محافظات جنوب القطاع خلال الشهرين الماضيين، بسبب إغلاق المعابر ومنع دخول الاحتياجات الأساسية والمساعدات التي تعرض جزء كبير منها للسرقة، عانت النساء الحوامل من سوء التغذية الأمر الذي أثر على صحة المواليد، وهو ما طال مكرم أيضًا.
ولم تخف مكرم فرحتها باقتراب اللحظة التي ستضم فيها طفلها، ليخفف مرارة الواقع الأليم، لكنها لا تخفي مخاوفها أيضا قائلة: "نسمع عن موت أطفال بسبب التجمد والبرد، وهذا ما يشكل هواجسا لدي، أتمنى أن تنفرج الأمور وتنتهي الحرب لكي أولد بسلام، أو أن يتم عودة الكهرباء لكي نستطيع شراء مدفأة لتدفئة المولود".
إضافة لهذه المخاوف، تخشى مكرم من حدوث مخاض الولادة في فترة الليلة، وهو ما سيتسبب بمشكلة نتيجة عدم وجود وسائل نقل للمشفى، أو بحدوث قصف إسرائيلي، يرافق القلق نبرة صوتها: "أشياء كثيرة تجعلنا نخاف، لكن الخروج في الليل بشوارع فارغة بحد ذاته يشغل تفكيري".
"هذه الأوقات كانت تمثل لي لحظات دفء وحنين، فكانت دائما وقت الإجازات واللقاءات العائلية حول موقد نار، نتجاذب الحديث مع الأحباب ونتشارك الذكريات الجميلة، كانت تحمل معها معاني البساطة والسكينة، نجتمع بأجواء ملية بالمحبة" يفتقد علي النجار (33 عاما) تلك الأيام، بسبب اغترابه بمصر بعيدًا عن أهله ومنزله.
وبات لقاء الأهل والجيران بالنسبة للنجار حلمًا بسبب طول أمد الحرب واستمرار إغلاق المعابر وعدم قدرته العودة لغزة، متمنيا، أن تعود الحياة الطبيعية التي يفتقدها أهل غزة، ويعود أهله وجيرانه لمنازلهم، وتتوقف معاناة الناس بسبب القتل والتجويع والتهجير، ويتوقف عداد الموت من حصد أرواح أبناء الشعب.
ورغم وجود أجواء احتفالية في القاهرة بمناسبة العام الجديد، يشعر النجار بوجع أهله وأبناء شعبه، ويقول: "مر العام السابق على بصعوبة كبيرة، بين الحرب والتهجير وفقدان الأحبة، كانت أياما ثقيلة، لكنها علمتني الصبر والقوة، وأن الأمل هو ما يجعلنا نستمر رغم كل شيء".
تحضره ذكريات أثناء تواجده بغزة "كنت على وشك الموت أنا وأطفالي عدة مرات نتيجة القصف العشوائي، الذي لم يفرق بين مدني وعسكري، كانت لحظات قاسية تركت اثرا عميقا في نفسي، لكنني ما زلت أحاول أن أتمسك بالأمل وأؤمن بأن الفرج قريب وان الايام القادمة تحمل لنا الخير".